غوكتشي غونيل، أستاذة مساعدة في علم الأنثروبولوجيا بجامعة رايس. ويركز كتابها الأخير على تشييد البنى التحتية للتكنولوجيا النظيفة والطاقة المتجددة في الإمارات العربية المتحدة، وبالذات على مشروع مدينة مصدر، وصدر الكتاب بعنوان "العلاقات المكانية في الصحراء: الطاقة، وتغير المناخ، والتصميم الحضري في أبو ظبي" (مطبعة جامعة ديوك، 2019). كما أن لها العديد من المقالات البحثية التي نُشرت وستنشر في مجلات ومنصات متخصصة، مثل: لوغ، أي-فلكس، الثقافة العامة Public Culture، مجلة الأنثروبولوجيا الفصلية Anthropological Quarterly، مجلة الدراسات الهندسية Engineering Studies، مجلة جنوب المحيط الأطلسي الفصلية South Atlantic Quarterly، والمزيد. وتعمل حالياً على تأليف كتابها الجديد عن عملية إنتاج الكهرباء في غانا، والذي عنونته مبدئياً بـ "تراكم الطاقة".
نص الحلقة:
م.ف.: صباح الخير، معكم مهناز فانسي، مديرة العلاقات الخارجية والاتصال في ترينالي الشارقة للعمارة. حلقتنا اليوم هي جزء من سلسلة ثلاثية من برنامج حوارات ترينالي الشارقة للعمارة وتأتي بعنوان "عمارة وأكثر: البنية التحتية" ويسعدني جداً أن أقدم لكم ضيفتنا لهذا اليوم غوكتشي غونيل التي تنضم إلينا من هيوستن.
وبداية لنتعرف أكثر عن غوكتشي. هي أستاذة مساعدة في علم الأنثروبولوجيا بجامعة رايس. وأصدرت كتابها الأول عام 2019 بعنوان "المركبة الفضائية في الصحراء: الطاقة، وتغير المناخ، والتصميم الحضري في أبو ظبي" ويركز على تشييد البنى التحتية للتكنولوجيا النظيفة والطاقة المتجددة في الإمارات العربية المتحدة، وبالذات على مشروع مدينة مصدر. كما أن لها العديد من المقالات البحثية التي نُشرت وستنشر في مجلات ومنصات متخصصة، مثل: إيفيرما Ephemera، والثقافة العامة Public Culture، ومجلة الأنثروبولوجيا الفصلية Anthropological Quarterly، وأفيري رفيو، ومجلة Fiber Culture.
شكراً لانضمامك معنا اليوم غوكتشي، لقد استمتعنا جداً ونحن نقرأ كتاباتك ونتعرف على المفاهيم المهمة التي تقدمها في مجال بيان دور البنية التحتية في الخليج والإمارات. وكيف أنه، من جهة، تدعم البنية التحتية التصور التخيلي لمدن الخليج على أنها مواقع للتقدم اللامحدود، وأنها دليل على تفوق الإنسان على الصعوبات الطبيعية التي تفرضها طبيعة الصحراء، الأمر الذي يشبه قصة تابولا راسا. ومن جهة أخرى، كيف يكون إيصال هذه الموارد أو المرافق من خلال البنية التحتية قادراً على تشكيل العلاقة بين الدولة ومواطنيها وسكانها.
إنني أتطلع إلى التعمق في هذا الموضوع أثناء حوارنا اليوم. بدايةً، أود أن أتعرف أكثر على مجال تخصصك أو النهج الذي تتبعيه كعالمة أنثروبولوجيا تعمل على موضوع البنية التحتية. وكيف يمكن وصف هذا المجال؟ "أنثروبولوجيا البنية التحتية"؟ وكيف تتيح أدوات القياس الخاصة بهذا العلم الاطلاع على آثار البنية التحتية، وهو الأمر الذي عادة ما يكون قائماً على مجالٍ علميٍ أكثر، أو بصيغة تقنية وإحصائية؟
غ.غ.: كما أشرتِ الآن، أنا مختصة في علم الإنسان أو الأنثروبولوجيا، وإحدى أهم التخصصات أو المناهج التي نتبعها في الأنثروبولوجيا هو البحث الإثنوغرافي، أي بيان الوضع الإنساني الاجتماعي. وكمختصين في هذا المجال، فإننا نقضي وقتاً طويلاً في ملاحظة الأفراد والأشياء المكونة للمجتمعات التي ندرسها. ويمكنني القول إن البنية التحتية أصبحت من المواضيع المهمة في علم الأنثروبولوجيا، لأن دراسة البنى التحتية التي تقوم عليها المدينة أو البلد (سواء كانت طرق جمع المخلفات، أو تصميم طرق النقل، أو قنوات المياه والكهرباء) والتي استمرت على مدار العشرين عاماً الماضية، أسفرت عن رؤية أوضح يمكننا من خلالها ملاحظة وفحص الكيفية التي يمكن من خلالها أن تبرز العلاقات الاقتصادية والاجتماعية عبر التركيبات التقنية.
لذلك، عادة ما يتم التعامل مع البنية التحتية كمشروعٍ تقني أو علمي، وأحياناً أخرى كمشروع تخطيط حضري، ولكن من النادر أن يكون أثره الاجتماعي محط انتباه أساسي. وفي بداية دراسة الأنثروبولوجيا للبنية التحتية، تم النظر إليها من خلال أعطالها أو نواقصها، لأن الأفراد عادة لا يلحظون وجود أسس البنية التحتية، ولكن في لحظات الخطأ أو الانهيار، يصبح فجأة اعتمادنا على تلك البنية التحتية جلياً للغاية. كيف يتصرف الناس في لحظات الفشل تلك، في الأوقات التي تنقطع فيها الكهرباء أو يصعب فيها الوصول للماء، وما إلى ذلك من مشاكل، هذه بعض الأسئلة المهمة التي شكلت السياق العام لدراساتنا.
وعلى الصعيد الخاص، يكمن اهتمامي أنا أكثر في مستقبل البنية التحتية، وكيف يخطط صناع القرار اليوم لأشكال البنية التحتية وأنواعها التي سنحتاجها ربما في غضون الـ 10 سنوات أو الـ 20 سنة القادمة، ولطالما كنت مهتمة في معرفة خطط ورؤى صناع القرار والخبراء في مجالي التغير المناخي والطاقة، والذين يفهمون بشكل كبير مستقبلنا ويتعاملون مع الأزمات المستقبلية التي تتعلق بالمشاكل البيئية أو ندرة موارد الطاقة، ولهذا أرى أن مدينة مصدر كانت هي الموقع المثالي بالنسبة لي للبحث في هذه التساؤلات، لأن الموقع هو مكانٌ يمكننا فيه التفكير بالفعل في كيفية صياغة المستقبل.
م.ف.: لقد أشرتِ بالضبط إلى النقطة التي كنت سأتحدث عنها الآن. هناك شيءٌ شبيهٌ بالخيال العلمي عند وصفك للمستقبل في كتابك عن مصدر، وهو أمرٌ مثيرٌ للاهتمام، ومن الرائع أن نرى كيف أنك استطعت اجراء العديد من الأبحاث عن الجوانب البيئية والعلمية لهذا المشروع المبكر والطموح والذي يختص ببناء مدن المستقبل القائمة على الطاقة المتجددة، والذي تم إطلاقه عام 2006 في أبو ظبي. وهناك أمر مهم أظن أننا جميعاً نود أن نعرف عنه أكثر، ألا وهو تصور "مدينة المستقبل" وفقاً لخطط مدينة مصدر، وما هي الأهداف الكامنة وراء هذه المدينة؟ وإلى حد يمكن اعتبارها تجربة ناجحة؟
غ.غ.: أشرت في كتاباتي إلى مدينة مصدر على أنها مشروع المدينة الفاضلة، أي المدينة التي تطمح إلى الحفاظ على استقرار علاقاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ولطالما كانت مدينة مصدر ذات طموحٍ ورؤية واضحين، إلا أن رؤيتها في الواقع كانت في سبيل المحافظة على استمرارية واستدامة البيئة الحالية. وأعتقد أن صناع القرار في أبو ظبي على دراية تامة بحقيقة أن النفط سوف ينفد يوماً ما أو سيصبح أقل قيمة في السوق، لذا أرادوا تأمين مستقبلهم من خلال بيئة حضرية تدعم الاقتصاد القائم على المعرفة، وأن هذا الاقتصاد القائم على المعرفة سيحل محل النفط وسيسمح لمواطني دولة الإمارات العربية المتحدة بالمحافظة على نمط حياتهم الحالي وضمان استمراريته في المستقبل.
لذلك، وعلى الرغم من أن مدينة مصدر تبدو أنها مدينة مستقبلية عند النظر إليها لأول مرة، إلا أنك عندما تدرسها عن كثب، تدرك أنها محاولة للحفاظ على الحاضر كما هو. أي محاولة في سبيل الحفاظ على العلاقات الطبقية كما نعرفها اليوم، والحفاظ على علاقات الاستهلاك. ومن أجل الحفاظ على الحاضر كما هو، توصل العاملون في مدينة مصدر إلى ما أشرت إليه في كتابي بـ "التعديلات التقنية"، وهي جميع أنواع الاختراعات والتدخلات التي تسمح للبشر بمواصلة اتباع أسلوب الحياة نفسه، مع إدخال تحولٍ صغيرٍ جداً، أو تعديلٍ صغيرٍ جداً. ولا أعتقد أن هذا النهج ينحصر بمدينة مصدر فقط، حيث نرى اليوم هذه التعديلات تنتشر في كل مكان، حيث يحاول الناس اختيار السيارات الكهربائية أو الأكياس البلاستيكية القابلة للتحلل، وكل هذا عبارة عن محاولات للحفاظ على أنماط حياتنا كما هي ولكن بنفس الوقت نحن نعترف وندرك أن تغير المناخ وندرة مصادر الطاقة هي مشاكل كبيرة علينا مواجهتها.
وبالطبع فإننا عندما نتحدث الآن عن هذه المشاكل في ظل جائحة فيروس كوفيد 19 ندرك أن تغيير نمط الحياة ممكن، فنحن، وبشكل مفاجئ، توقفنا عن الطيران، وتوقفنا عن استخدام الموارد التي اعتدنا استخدامها بشكل مكثف سابقاً، وبدأنا نلحظ تحولاً في الشكل الذي يرى فيه الناس مستقبلهم الاقتصادي وعلاقاتهم الاجتماعية وأشكال مدنهم. لذا، فأنا أرى أن ما حدث خلال هذه الجائحة كان مفيداً للغاية، حيث سمح لنا بالتفكير في طرقٍ جديدة للتخفيف من آثار تغير المناخ، طرق ليست تقنية بحتة، أو ليست قائمة بشكل كاملٍ على نماذج الأعمال أو حلول التصميم الحضري الذكي.
م.ف.: يمكننا القول إذاً أن الأمر يتعلق بالاستجابة البشرية، السلوك البشري؟
غ.غ.: نعم إنها استجابة الإنسان للمتغيرات، نوع معين من أنواع التعديلات الأخلاقية فيما يتعلق بالكيفية التي نود من خلالها حماية الآخرين في مجتمعاتنا، وكيف نقدم لهم الرعاية والاهتمام. وأنا أرى أن هناك تحولٌ أخلاقي يشهده الناس حالياً. وأرى أن هذا الأمر فتح لنا مجالاً لنرى أنه من الممكن تغيير طريقة العيش التي نتبعها اليوم.
م.ف.: إذاً فأنتِ عندما تشيرين إلى التعديلات التقنية، تقصدين تلك المبادرات الصغيرة، ويبدو لنا أن حجم المشروع في مصدر كان ضخماً. ما الذي حدث إذاً، بين الطموحات التي رأيناها لهذا المشروع، وبين الانتقال إلى مرحلة التعديلات التقنية؟
غ.غ.: أعتقد أن إحدى الطرق التي يمكن لنا من خلالها فهم آلية عمل مصدر هو أن نراها على أنها تجمع للتعديلات التقنية ضمن نطاقات مختلفة. أظن أن مشروع المدينة بحد ذاته هو محاولة لتقديم التعديلات التقنية هذه عند التفكير في التحضر والعمران. إذاً، السؤال هو، كيف نبني المدن في إطار الوعي المناخي والوعي الطاقي؟ هذا هو السؤال الذي أدى إلى تخطيط مدينة مصدر. ولكن، وبنفس الوقت، كان هناك اهتمام واضح لإنتاج نموذجٍ أعمالٍ جديد، وهذا النموذج لا يمكن أن يتشكل إلا من خلال مساحة متخصصة، كانت ستبنى من أجل احتضان شركات التقنيات النظيفة والطاقة المتجددة.
ومن خلال بناء مدينة جديدة، تنشأ طريقة جديدة لاستغلال المساحات في الصحراء، وفي دولة منتجة للنفط، يمكن إنتاج هذه المشاريع وربما عرضها كسلعة وبيعها للبلدان الأخرى. كانت الفكرة وراء المشروع هي إثبات أنه إذا كان بإمكانك بناؤه في الصحراء، فيمكنك بناؤه في أي مكان. لذا كان ينظر إليه على أنه مشروع غير محددٍ بسياقٍ واحد، ويمكن تنفيذه في أي مكان. وهذا هو سبب وجود الاستعارة "مركبة فضائية في الصحراء"، وكذلك لأن المدينة تشبه بتصميمها المركبة الفضائية، وهي نموذج تكنولوجي في حد ذاته، يمكن أن تفتح آفاقاً جديدة ويمكن أن تعدل الظروف الاقتصادية والسياسية في أبو ظبي خلال الفترة التي ستكون فيها موارد النفط أقل قيمة أو غير متوفرة.
م.ف.: إنها فكرةٌ مذهلة، أن يتم تكرار نموذج المدينة هذه وعرضه بطريقة تجارية للغير. هل لك أن تحدثينا قليلاً عن معنى "الاقتصاد المعرفي" الذي تتبناه مصدر؟
غ.غ.: أحد الأمور التي سمعتها من الخبراء في مدينة مصدر هي أنهم يدركون أن النفط موردٌ قابلٌ للتصدير إلا أن الطاقة الشمسية ليست قابلة للتصدير. لذا، ما الذي يمكننا فعله لجعل هذه الطاقة المتوفرة بشكل دائم قابلة للتصدير؟ ومن أجل الانتقال إلى مرحلة "ما بعد النفط" بدأوا في التفكير بالبدائل، وقرروا بناء وادي السيليكون القائم على الطاقة المتجددة والتقنية النظيفة، وبدلاً من بيع النفط الخام أو المكرر، سيتم بيع الطاقات المتجددة والتكنولوجيا النظيفة.
بداية انطلقت الفكرة من مكانة أبو ظبي كونها عضو مهم جداً في مجال الطاقة، ولذا كان من المقرر أن تعيد بناء هذا المفهوم لتكون هي "مقراً للطاقة". ومن أجل تحقيق هذا الهدف، كان لا بد لها من الاستثمار في طاقة الرياح والطاقة الشمسية، وكان لا بدَّ من بناء التقنيات النظيفة التي يمكن تصديرها لمختلف دول العاللم. ولا يقتصر التصدير على هذه التقنيات الجديدة فحسب، بل يرافقها مجموعة من البعثات الاستشارية عن كيفية التقديم للحصول على ائتمان الكربون للحد من الانبعاثات وللحصول على براءات الاختراع للعديد من المنتجات التقنية. لذا، فقد كان هناك الكثير من الأحداث القائمة حيال هذا الأمر.
وسؤالك عن حجم المشروع ونطاقه كان مهماً للغاية، لأنه بشكلٍ أو بآخر، أصبحت مدينة مصدر بحد ذاتها "منتجاً تكنولوجياً". ويكون النطاق في هذا السياق قد تقلص، مما جعل مدينة مصدر نوعاً آخر من أنواع السلع، يتم تصديره مثل لوحٍ شمسيٍ جديد.
م.ف.: إذاً، يمكنني أن أقول، أن هذه المشاريع الضخمة والمكلفة مثل مصدر، وجميع مشاريع البنية التحتية المتعلقة بالكهرباء والمياه، ترتبط جميعها بما ذكرتيه للتو: المستقبل المتوقع لدول مجلس التعاون الخليجي عندما يتوقف اعتمادها على النفط كمحفزٍ أساسي للاقتصاد. كيف تسهم هذه البنية التحتية إذاً في رفع قيمة هذه المدن؟ أي جعلها أكثر جاذبية للاستثمار العالمي، والسياحة والهجرة؟ وعودة إلى النقطة التي تحدثتِ عنها مسبقاً فيما يخص التعديلات التقنية، ما هي التغيرات السلوكية والاجتماعية التي يجب أن تحدث في دول الخليج لضمان استمرارية توزيع هذه الموارد في المستقبل؟
غ.غ.: من أجل التمكن من العيش في دول الخليج، كان على الأشخاص الذين هاجروا إليها أو كانوا يعيشون هناك منذ البداية بناء بنية تحتية بتقنية قادرة على دفع الحرارة للخارج، وخلق موارد إضافية للمياه، والسماح لمكيفات الهواء أن تعمل كما هو مخططٌ لها، وما إلى ذلك من مشاريع قائمة للتأقلم. والبنية التحتية للكهرباء والمياه – تماماً كما هي في أي مكان آخر حول العالم – ضرورية جداً لبقاء دول الخليج كما هي الآن.
وإحدى المشاكل التي ظهرت الآن، هي: كيف يمكن صيانة هذه البنية التحتية بعد إنشاءها وكيف نحافظ عليها؟ كيف تضمن أن مصادر المياه والكهرباء غير المحدودة ستبقى متاحة للجميع في الإمارات ودول الخليج في المستقبل؟ وأحد أسباب بروز هذه المشكلة في الخليج هو أن الناس جاءوا إلى هنا معتقدين أن موارد المياه والكهرباء اللانهائية ستكون دائماً متاحة. لذا، فإنه في اللحظة التي تصبح فيها المياه فجأة غير مجانية، أو تكون هناك زيادة في أسعار استهلاك الكهرباء، سيكون هناك حاجة لإرضاء السكان بطرق بديلة، ولإرضائهم وإبقائهم سعداء، فمن الضروري جداً إنتاج المياه وتوليد الكهرباء بشكل لا حصر له. كما يجب ألا ننسى أن توليد الكهرباء اللامحدود يعني تكييفاً لا محدود للهواء، لأن 70 % من استهلاك طاقة الكهرباء في الخليج تذهب في سبيل تشغيل مكيفات الهواء.
لقد كتب الناس وكتبت أنا كذلك عن ظاهرة الارتباط بدرجة حرارة معينة باعتبارها دلالة على "الحداثة الحرارية". وعلى سبيل المثال هناك بعض السكان في مدينة مصدر أرادوا السكن في غرف تصل درجة حرارتها إلى 17 درجة مئوية، إلا أن المعماريين والمهندسين الذين كانوا جزءاً من المشروع رفضوا ذلك وقالوا "إن هذا مستحيل، سوف نضبط التكييف على 24 درجة مئوية". إذاً يمكننا أن نلحظ هنا أن هناك أهمية اجتماعية لدرجة الحرارة التي نختارها في منازلنا. وهذه الأمور ليست ضرورة حتمية لوجودنا كبشر، ولكن نحن نتبع هذه السلوكيات لنرى أنفسنا كـ "حداثيين"، أليس كذلك؟ أو، من منظور الدولة، هي طريقة شرعية لإضفاء صفة الحداثة على هذه الدولة أو تلك. وعندما كتبت عن المياه، أردت أن أؤكد على أن العديد من صفات الجودة "الطبيعية" للمياه يتم تجاهلها ضمن الوضع القائم في الإمارات ودول الخليج الأخرى.
م.ف.: وأنتِ تتحدثين، شعرت أن هذا النمط السائد يأتي دائماً لفصل الإنسان عن الجسد... أي أن حتى درجة الحرارة التي نود أن نعيشها هي أمرٌ "اجتماعي". ولهذا السبب انبهرت جداً وأنا أقراء المقال الذي كتبتيه عن مشروع "الدعامة"، المقال الذي نُشر عام 2018 عن الشبكة الكهربائية الرائعة التي تبنتها دول الخليج. هل لك أن تخبرينا عن الأهداف الاستراتيجية لهذه الدعامة؟ وما هي القضايا التي أدت إلى تشكيل هذا التعاون الإقليمي؟
غوكتشي غونيل: إن مشروع الدعامة أو العماد هو حرفياً بمثابة الدعامة التي تجمع سائر دول مجلس التعاون الخليجي كجسدٍ واحد، ومن هذا المنطلق، تخدم البنية التحتية الكهربائية غرضاً سياسياً مهماً للغاية يتمثل في إبقاء هذه البلدان مرتبطة ببعضها البعض. كما أنها تسمح بتجارة الكهرباء وتبادلها بين هذه الدول. لذا يمكننا القول إن الطاقة النووية التي تنتج الكهرباء الآن في أبو ظبي يمكن نظرياً بيعها عبر هذه الشبكة وتزويد مواطني دول الخليج بالكهرباء. وهذا النوع من الاستثمار السياسي في دول مجلس التعاون الخليجي يسمح لدولٍ أخرى ببناء محطات توليد الكهرباء التي يمكن أن تخدم عدداً أكبر من السكان، يفوق عدد السكان المحلي الحالي. وأحد الأسباب الأخرى التي أدت إلى بناء هذه الهيئة أو الشبكة، هو حتى يتسنى استخدام الكهرباء التي يتم توليدها في دول الخليج لإعادة بناء سوريا أو العراق. لذا، فإنه من المتوقع أن يكون هناك سوق إضافية في الدول التي تعرضت للتدمير بسبب النزاعات، لأنه متى ما كان المشروع قائماً أصبح من الممكن توسعته.
ولهذا، يوجد هناك منطق السوق، فالكهرباء هي سلعة مميزة: لا يمكنك وضعها في صندوق وشحنها، يجب أن تبيعها في الشبكة ومن خلالها. لذا فإن وجود شبكة ربط للكهرباء، هي بمثابة وجود طريق سريع يمكن من خلاله إرسال شاحنات كهربائية إلى أماكن مختلفة. ويعتبر هذا استثماراً اقتصادياً مهماً يتجاوز واقع أنه استثمارٌ سياسيّ يخدم وحدة دول مجلس التعاون الخليجي. إنها طريقة تفتح من خلالها دول الخليج سوقاً جديدة لا تعتمد بالضرورة على تصدير النفط. ومتى ما تم وصل هذه الشبكة بالشبكة التركية يمكن توصيلها بالشبكة الأوروبية، الأمر الذي يولد نطاقاً جديداً بالكامل يعتمد على صادرات الكهرباء.
م.ف.: هل تم تصدير أي كهرباء لتركيا أو مصر أو سوريا أو العراق؟ لأننا عندما ندرك حجم الطاقة المستهلكة في السعودية والإمارات مقارنةً بدول أخرى، يصعب علينا أن نتخيل أمراً كهذا. خاصة أنه يجب عليهم تأمين احتياجهم الوطني أولاً، لا سيما وأن الحاجة لاستهلاك الكهرباء تزداد، ومن ثم إنتاج ما يكفي لتأسيس سوقٍ عالمية.
غ.غ.: أظن أن مشروع الطاقة النووية في أبو ظبي يعد مثالاً مناسباً هنا. عندما كنت أعمل على أبحاثي في عامي 2010 و2011، كانت الطاقة المتجددة والتقنيات النظيفة يشار إليها آنذاك (على الأقل بين مجتمع الخبراء الذي كنت أدرسه) بالطاقة الشمسية وطاقة الرياح. والآن، عندما زرت الإمارات في بداية هذا العام في شهر فبراير 2020، كانت أولى محطاتي التي زرتها هي المقر الرئيسي لمشروع الطاقة النووية في أبو ظبي، وكنا هناك في اليوم الذي وصلت فيه أول دفعة وقود في محطات الطاقة النووية، حتى يبدأ الآن مستقبل جديد للطاقة المتجددة.
لذا أعتقد أن أكثر الاستثمارات الآن، على الأقل في الإمارات، ستكون في توليد الطاقة النووية. وهي مكونٌ أساسي من مكونات منظومة الطاقة المتجددة، وباستخدامها يتم الخروج عن سيطرة النفط والغاز والطبيعي، كما أنها مورد فعّال للغاية. وأرى الآن أن الاستهلاك الضخم للكهرباء في دول الخليج سيتم تلبيته من خلال توسعة البنية التحتية النووية. لا أعلم ما هي المخططات في دول خليجية أخرى حيال هذا الشأن، إلا أنه على الأغلب سيكون هذا التطور في أبو ظبي مؤشراً واضحاً على تطورات أخرى مستقبلية قد تحدث في دول مجلس التعاون الخليجي الباقية.
م.ف.: بينما كنتِ تتحدثين، أدركت أنه ربما من خلال هذه الابتكارات في مجال توليد الكهرباء، فإنهم يخلقون نوعاً من "الطاقة اللانهائية" نفسها التي أشرتِ لها سابقاً في أبحاثك عن المياه. لذلك، دعينا ننتقل الآن للحديث عن المياه، عند العودة إلى مقالك الذي نُشر عام 2016 بعنوان "اللانهائية في موارد المياه"، شرحتِ بالتفصيل البنية التحتية المستخدمة لتحلية المياه وكيف أنها تنتج وهم "المورد اللانهائي" هذا، على الرغم من أن ندرة المياه في الواقع هي واحدة من أكثر القضايا الشائكة إلحاحاً في هذه المنطقة. وخاصة أن تغير المناخ يعني أن جميع القضايا الأخرى الحالية سوف تتفاقم خلال العقود القادمة، وذلك أن عملية تحلية المياه قد أثبتت بالفعل أن لها تأثيراً سلبياً كبيراً على البيئة. كيف يمكن لنا إذاً أن نوازن بين ما تكلفه هذه التقنية سواء بشكل حرفي أو بتأثيرها على البيئة وبين الفائدة التي تقدمها؟
غ.غ.: سؤالٌ رائع، إن أحد الأمور التي أذهلتني عندما كنت أجري بحثي في مصدر هو القدرة على "توقع العوامل الخارجية". وسأستخدم مصدر كمثال للإجابة على هذه الأسئلة ذات النطاق الأوسع، لأنه عندما تم بناء مدينة مصدر، بنيت لتكون "مدينة خالية من الكربون". لم يكن هناك أحد يعلم ما تعنيه عبارة "صفر كربون" أو "انعدام الكربون" في أواخر عام 2010، وعندما بدأ الناس بالانتقال إلى مدينة مصدر والعيش في سكن معهد مصدر، اجتمع الطلاب وأعضاء هيئة التدريس معاً ليقرروا كيف سيتم تعريف "صفر كربون".
وكانت هذه مشكلة حسابية بشكل أساسي، لأن أنواع القرارات التي كان يجب اتخاذها تتمحور حول العديد من التساؤلات: ما هي الانبعاثات التي يمكن أن نعتبرها انبعاثات مدينة مصدر؟ لدينا كل هؤلاء الموظفين الذين قدموا من دولٍ أخرى ويرغبون بالسفر لرؤية عائلاتهم كل ثلاثة أو أربعة أشهر، فهل نحسب رحلاتهم إلى دولهم كجزءٍ من انبعاثاتنا؟ والعديد من الموظفين الآخرين يقطنون في دبي، ويقودون سياراتهم يومياً إلى مدينة مصدر، فهل ندرج هذه الرحلات ضمن انبعاثاتنا هنا؟ كما يوجد لدينا التفاح والكمثرى والبرتقال، وما إلى ذلك من منتجات يتم بيعها في محل البقالة للمنتجات العضوية، ونحن نأكل من هذه الفواكه التي تمت زراعتها في مكان آخر، فهل يتعين علينا أن نأخذ في عين الاعتبار الانبعاثات التي نتجت أثناء زراعتها ونقلها إلى محل البقالة هنا؟
لذلك، عندما تضع الأشياء التي تشكل المدينة بشكل تفصيلي، -كل الأشياء التي من شأنها الحفاظ على بقاء السكان ومعيشتهم-، تدرك أنه من الصعب جداً إنتاج مدينة خالية من الكربون. ومن الصعب جداً وضع حدود للنقطة التي تنتهي عندها المدينة ويبدأ عندها بقية العالم. ونحن نواجه نفس هذا النوع من المشكلات ولكن على نطاق أوسع عندما نتحدث عن الدول، فلنقل مثلاً أن الإمارات مسؤولة عن نسبة "ص" من انبعاثات الكربون، ونحاول أن نجد طرق لاحتواء أو تقليل هذه الانبعاثات، إلا أن الكثير من المخلفات التي تنتجها البلدان ليست بالضرورة مأخوذة بالحسبان ضمن التخطيط الوطني أو الاعتبارات المالية لهذه الدول، وبالتالي تصبح "عوامل خارجية".
هذه واحدة من المشكلات التي تواجهنا الآن. نعم، إن تحلية المياه تسبب تغيراً في درجة الحرارة، وتغير مستوى الملوحة في المياه، مما يتسبب بحدوث المد الأحمر. لهذه التقنية كل هذه الآثار، ولكن في هذا السياق يمكننا اعتبارها على أنها "عوامل خارجية" – ببساطة أكثر، يمكننا القول إن الأمر بمثابة الآثار الجانبية لأي نشاط اقتصادي، فالأثر ليس بالضرورة ضاراً بالنشاط نفسه، ولكنه يؤثر على الأطراف الأخرى.
م.ف.: أود الإشارة إلى ما ذكرتيه في مقال اللانهائية في مصادر المياه، حيث قلتِ "إن إدراكنا لعوامل تخفيف آثار التغير المناخي والتعايش معها يتشكل ويتغير وفقاً للسياق الاجتماعي الذي يتم من خلاله ترجمة هذه العوامل. وبالتالي، فإنه من الضروري أن يتبع التقارير العلمية عن حالة الظروف البيئية في المنطقة أسئلةٌ أكثر تفصيلاً عن الكيفية والأسباب، وتكون متعلقة بالسياق الاقتصادي والسياسي والاجتماعي." سؤالي هو، ماهي هذه الأسئلة التي يمكن طرحها في منطقة الخليج (تلك الدول الغنية بالنفط) وماهي التحديات الموجودة هنا دون أي مكانٍ آخر؟
غ.غ.: ربما تكون الأسئلة عن الكيفية والأسباب متعلقة بالاستهلاك هنا. فمثلاً، لماذا يجب علينا إبقاء غرفنا ضمن درجات حرارة منخفضة؟ ما السبب؟ ولماذا يجب علينا سقاية مروجنا؟ لماذا يجب أن نستهلك الموارد بالقدر الذي نستهلكه الآن؟
أحد الأمور التي أردت الكتابة عنها في مقال "لانهائية مصادر المياه" هو أن مشاكل المياه في الخليج أو في الإمارات ليست ناجمة بالضرورة عن تغير المناخ. إن الكثير من هذه المشاكل تحدث بسبب استخدام الموارد التي لا يتم تجدديها أو سد النقص فيها بالوقت المناسب، بالإضافة إلى عدم تحمل المسؤولية اللازمة أثناء استخدام هذه الموارد. وهكذا، فإنه على الرغم من وجود أدوات التكيف مع تغير المناخ، وعلى الرغم من كونها مفيدة جداً عند التفكير بحلول للمشاكل المتعلقة بالمياه، إلا أن هذه الأدوات لا يمكنها حل جميع مشاكلنا. يتعين على البشر أيضاً التفكير في الطرق التي يستهلكون فيها هذه الموارد، والطرق التي يتوقعون أنه من خلالها سيتم فعلاً توفير الموارد في جميع الأوقات. وعلى الرغم من أننا نعتمد على تخيلات "لا نهائية مصادر المياه" أو "لا نهائية الطاقة" إلا أننا ندرك حقاً أن تلك التخيلات أو المعتقدات ليست بالضرورة مستدامة.
م.ف.: هذا الأمر يضطرني أن أسأل عن الجزء الذي أشرتِ فيه بكتابك عن مصدر إلى "عمارة الخيال العلمي" والتخيلات التي رُسمت منذ فترة الخمسينيات وحتى سبعينيات القرن الماضي. إنها صورة مثيرة للاهتمام، صورة لنا ونحن في المستقبل. هل لك أن تحدثينا عن الجزء الخاص بالعمارة من هذه التخيلات؟
غ.غ.: بالطبع. أحد المهندسين في مصدر، في بدايات العمل على المشروع، كان قد أجرى مقابلة، قال فيها "ما نحاول بناؤه هنا هو نموذج عن فيلم الخيال العلمي الـ "Blade Runner". وقد تم الاستهزاء بهذا التعليق في كل مكان. وقال الجميع أن نموذج الـ Blade Runner ليس أمراً يمكننا أن نطمح إليه، إنه واقعٌ مرير وهو عالم لم يتم فيه حل أي من المشكلات التي كان من المفترض حلها. ولكن نحن فعلياً، ما نشهده الآن، على الرغم من وجود كل أنواع الابتكارات التكنولوجية، وعلى الرغم من وجود جميع نماذج الأعمال الجديدة، وما إلى ذلك من تطورات، دليل على أن المشاكل لا تزال قائمة.
كما أن العديد من المراجع التي تم استخدامها أثناء تشييد مدينة مصدر كانت مراجع من الستينيات وحتى الثمانينيات. تصورٌ لعالمٍ يمكن عزله، ويتمتع بنوع من الانفصال خارج سياق المشاكل العالمية. وكانت هذه القدرة على الانعزال مثيرة للاهتمام بالنسبة لهذا المهندس، وقد تشكلت العديد من المراجع لبناء مدينة مصدر انطلاقاً من هذا التصور، أي القدرة على بناء مدينة يمكن لها مقاومة جميع أنواع المشاكل البيئية من خلال عزل نفسها عن بيئتها. ولهذا تعتبر صورة المركبة الفضائية مهمة للغاية، لأن سفينة الفضاء هي نموذج لمركبة قادرة على الوجود والاستمرارية في الفراغ.
وبالتأكيد رأينا الكثير من الأمثلة على ذلك. هناك رموز أخرى وأقدم لمفهوم العزلة، مثل سفينة نوح. لذا، فإن العودة إلى مراجع الخيال العلمي لم تكن مهمة فقط في مجال التفكير في التعديلات التقنية والتكنولوجية الخاصة بمدينة مصدر، مثل استخدام السيارات بلا سائق، ولكنها كانت أيضاً مهمة في تحديد أو تأطير التصور الخاص بهذا التركيب، التصور الذي يرى إمكانية وجود هذه المساحة المعزولة.
م.ف.: تعجبني فكرة هذا المنهج، ومع ذلك في نفس الوقت لدينا مصادر المعلومات المحلية، وهم الأشخاص الذين تحدثتِ إليهم، القاطنين في مصدر، ويمكننا أن نرى أن هناك مجتمعٌ متماسك تجمعه هذه المعتقدات، ويمكننا استشعار شيء من الطوباوية هنا أو التفكير التخيلي، هل هذا صحيح؟ أم أني مخطئة في استنتاج هذا الأمر، ما رأيكِ أنتِ؟
غ.غ.: بالطبع، لقد أصبتِ بقراءتك للمشهد، لكن أعتقد أنه ربما من المهم أن نسأل عن الأشخاص غير المرحب بهم في هذا المجتمع، من هم؟ ومن هم الأشخاص المسموح لهم بالدخول؟ ومن لا يستطيع الدخول؟ وهنا نرى أن استخدام الاستعارة التي تشير إلى المركبة الفضائية مفيد جداً، حتى نشرح لماذا يُسمح فقط لرواد الفضاء بالوجود داخل المركبة، ذلك لأن لديهم وظيفية محددة بحاجة لخبرات خاصة للغاية.
أحد الأمثلة الأكثر دلالة على ذلك هو عندما كنت أقوم بعمل ميداني في مدينة مصدر، أخذني أحد المهندسين في جولة في محطة الطاقة الشمسية. وبينما كنا نتجول، أخبرني أن الألواح الشمسية في الواقع ليست بنفس الكفاءة التي توقعوها لأن الغبار والطين يغطيان الألواح الشمسية ويقللان من قدرتها على إنتاج الكهرباء. وأضاف قائلاً: "لكن، لا تقلقي، وجدنا حلاً لهذه المشكلة، نسميها (رجل بفرشاة)". بحيث يذهب الرجل صاحب الفرشاة إلى مختلف أرجاء موقع مدينة مصدر لتنظيف الألواح الشمسية بشكل يومي. ولهذا، إذا فكرنا في الأمر، فإن وجود الرجل المسؤول عن الفرشاة أمر أساسي لوجود مدينة مصدر. حتى لو كانت مدينة مصدر قادرة على تحقيق طموحاتها في أن تصبح خالية من الكربون وتعتمد فقط على الألواح الشمسية لإنتاج الكهرباء، إلا أن وجود الرجل صاحب الفرشاة سيكون ضرورياً ولا يمكن التخلي عنه لتنظيف تلك الألواح الشمسية.
إلا أن هذا الرجل صاحب الفرشاة، لم يُنظر إليه قط على أنه واحدٌ من أعضاء هذا المجتمع، ولن يكون أبداً عضواً في هذا النوع من الوجود الطوباوي للمجموعة التي تعيش في هذه المساحة، على الرغم من أن وجوده أساسي في آلية عمل هذا المجتمع. وأعتقد أن هذا مثالٌ معبّرٌ للغاية. وأرى أن الأمر يتعلق بتقرير من يتم إنقاذه في مركبة الفضاء أو في سفينة نوح، ومن يتم التخلي عنه.
م.ف.: هذه طريقة مهمة لنعرف ليس فقط ما يحاول مشروع مدينة مصدر إنجازه بل ما هي أوجه القصور كذلك.
في سؤالي الأخير لحلقة اليوم، أود أن أتطرق إلى الجانب البيئي، فالبيئة في منطقة مثل الخليج تعتبر هشة نوعاً ما، أليس كذلك؟ إضافةً إلى أن وجود كل هذه التقنيات الجديدة تضع ضغطاً أكبر على النظام البيئي الهش. برأيك، بعد أن اطلعتِ على مشاريع البنى التحتية المختلفة، أين ترين الاحتياجات الأكثر إلحاحاً حالياً؟
غ.غ.: قضيت الأشهر القليلة الماضية وأنا أتابع نمو غابات القرم على ساحل أبو ظبي، ولدي بعض الزملاء يجرون أبحاثاً الآن عن انتشار غابات القرم. وأرى أنه من المثير للاهتمام دراسة هذه الغابات، لأنها تنشاً كشكلٍ آخر من أشكال "العوامل الخارجية" التي تحدثنا عنها قبل قليل، لأنه يتم تغذيتها عبر محطات الصرف الصحي ومحطات تنقية المياه. لذا، فإن المخلفات الحضرية في أبو ظبي خلقت هذا النوع الجديد من البيئة، التي غيرت الطريقة التي يفهم بها سكان المدينة شكل "الطبيعة" التي يمكنهم الوصول إليها. وأجد أنه من الممتع متابعة هذه النظم البيئية الجديدة التي ولدت بطرقٍ غير متوقعة. لذا، ربما، بدلاً من القيام بالتعديلات التقنية، أعتقد أن هناك أمرٌ قد يكون مفيداً عندما نفكر في البنية التحتية لمكان مثل أبو ظبي، ألا وهو تتبع المناطق التي يمكن أن تؤثر عليها البنية التحتية لنتمكن من متابعة الأنواع المختلفة من الكائنات والبيئات التي يمكن تنمو ضمن هذه البنى، من البداية حتى النهاية- هناك بعدٌ زمني لهذه البنى التحتية، فهي لا تعمل بالضرورة بشكلٍ واحد كل يوم، ولا حتى بنفس السياق: فهي تغير السياق الذي تعمل به، وهذا السياق الجديد يكسبها دوراً جديداً وبالتالي تتغير آلية البنية التحتية نفسها. ولهذا أؤمن أن هذا النوع من الرعاية المنهجية سيساعدنا على التفكير في البنية التحتية والعمران بطريقة أكثر حرصاً وانتبهاً.
(الهوية البصرية بإذن: ترينالي الشارقة للعمارة، الصورة بإذن: غوكتشي غونيل، تقنية التسجيل الصوتي: Blue Dot Sessions)