البروفيسور أشرف سلامة، رئيس قسم العمارة في جامعة ستراثكلايد، غلاسكو، في المملكة المتحدة، وكان عميداً لكلية العمارة ما بين عامي 2014 و2020. له أكثر من 170 بحثاً نشروا في مجلات عالمية مرجعية، ألّف وشارك في تحرير 14 كتاباً متخصصاً. وله باعٌ طويل في في مجال البحث الأكاديمي والتدريس والتصميم والاستشارات القائمة على البحث. ومن خلال خبرته الطويلة استطاع البروفيسور سلامة أن يجمع ما بين المعرفة النظرية وفنون التصميم والتدريس والممارسة المعمارية في المجال المهني. ويركز سلامة في أبحاثه على المواضيع الفارقة التي تدرس تفاصيل المدن الناشئة في منطقة الشرق الأوسط. ويدير حالياً المجموعة البحثية المتخصصة بالعمارة والتحضر في الجنوب العالمي في جامعة ستراثكلايد وهو رئيس تحرير مجلة Archnet-IJAR العالمية المتخصصة في البحث المعماري، ومجلة Open House العالمية. وكتابه الأخير الذي أتى بعنوان "التميز المعماري في المجتمعات الإسلامية"، روتليدج 2020، يبحث في السياق الأوسع للعالم الإسلامي.
الدكتور فلوريان ويدمان، محاضر في جامعة نوتينغهام، ومتخصص في البحث في التحولات الحضرية من منظور عالمي ومتعدد التخصصات، وعمل ويدمان في مجال البحث والممارسة المعمارية والتدريس منذ عام 2006. وكان لمشاركته في المشاريع والدورات متعددة التخصصات في أربع دول مختلفة الأثر الكبير في تعزيز خبرته في المجالات المختلفة للدراسات الحضرية، بدءاً من مجال الإدارة الحضرية إلى الاقتصاد الحضري ودراسات التأثير المكاني للهجرة. يمكن أن نرى أن جل تركيز بحثه وتعاليمه وممارسته ينصب ضمن سياق اتجاهات التنمية الحضرية حول العالم، وخاصة في المدن الناشئة، وكذلك في مجال التحديات الناتجة عن التطور، مثل التحديات البيئية (كما في النقل والمواصلات)، وآليات عمل السوق الجديدة (مثل إسكان المهاجرين)، والدور المهم للتصميم الحضري والعمارة في عملية بناء الأمكنة.
نص الحلقة:
د.م.: مرحباً جميعاً معكم ديان مهنا، معمارية ومنسقة برامج في ترينالي الشارقة للعمارة، ويسرني اليوم أن أرحب بالبروفيس
أشرف سلامة والدكتور فلوريان ويدمان، اللذان ينضمان إلينا في ثالث حلقات السلسلة الثانية من برنامج "عمارة وأكثر: المدينة". وسنبدأ حلقتنا بالحديث قليلاً عن ضيفينا لهذا اليوم. البروفيسور أشرف سلامة، هو رئيس قسم العمارة في جامعة ستراثكلايد، في غلاسكو، وهو عميد كلية العمارة في الفترة ما بين عامي 2014 و 2020. وله باعٌ طويل في مجال البحث الأكاديمي وتدريس التصميم وتقديم الاستشارات القائمة على البحث. ومن خلال خبرته الطويلة استطاع أن يجمع ما بين المعرفة النظرية وفنون التصميم والتدريس والممارسة المعمارية في المجال المهني. ويدير حالياً المجموعة البحثية المتخصصة بالعمارة والتحضر في الجنوب العالمي في جامعة ستراثكلايد. والدكتور فلوريان ويدمان، محاضر في جامعة نوتينغهام، ومتخصص في البحث في التحولات الحضرية من منظور عالمي ومتعدد التخصصات، وعمل ويدمان في مجال البحث والممارسة المعمارية والتدريس منذ عام 2006. ويمكننا أن نرى أن منهجيات أبحاثه وأطرها تتبع نهجاً متكاملاً وهي متجذرة في نظريات بناء الأمكنة جنباً إلى جنب مع الفهم المعاصر للاستدامة الحضرية. وتعاون البروفيسور سلامة مع الدكتور ويدمان على إنتاج عدد من المشاريع البحثية وإصدار المنشورات التي تتحدث عن الاستدامة الحضرية في مدن الخليج، ومن هذه المنشورات كتابين، الأول بعنوان: "تبديد الغموض عن الدوحة: عن العمارة والتحضر في مدينة ناشئة"، وصدر عام 2013 Demystifying Doha: On architecture and urbanism in an emerging city, 2013 والثاني، بعنوان: "بناء مدن المهاجرين في الخليج: تحولاتٌ حضرية في الشرق الأوسط"، وصدر عام 2019 Building Migrant Cities in the Gulf: Urban transformations in the Middle East, 2019 أشرف وفلوريان، يسرنا استضافتكم معنا اليوم. ونشكر لكم وجودكم معنا من غلاسكو ونوتينغهام.
أ.س.: شكراً لكِ ديان على استضافتنا.
ف.و.: شكراً لكِ.
د.م.: كان لتعاونكما الأثر الكبير على الأعمال التي تم إنجازها في مدينة الدوحة. بروفيسور أشرف، هل لك أن تشرح لنا السياق الذي تعملان من خلاله؟ وأن تخبرنا عن الجوانب التي تركز عليها أبحاثكما عندما يتعلق الأمر بالبيئة الحضرية في الدوحة؟
أ.س.: حقيقةً، إن عملنا يعتبر عملاً شاملاً، لأنه، كما ذكرتِ، يتألف من مشروعي بحث كبيرين تم تموليهما من الصندوق القطري لرعاية البحث العلمي ومؤسسة قطر. وبشكل عام، يركز عملنا على اقتصاد المعرفة والتحضر المستدام، وكان هذا هو المشروع الأول. وفي المشروع الثاني ركزنا أكثر على أنماط الإسكان في المجتمعات متعددة الثقافات في الخليج. لكن، وبشكل خاص، نركز على التفاعلات في البيئة البشرية، أي العلاقة بين الإنسان والمكان، وما يسمى بـ "المكان المسكون والبيئة الحضرية اليومية". كما أنه يتضمن كذلك صورة المدينة، وكيف تكافح المدينة الخليجية، الدوحة على سبيل المثال، من أجل التعريف بنفسها ومن أجل بناء هوية معاصرة خاصة بها، وما يعنيه ذلك بالنسبة لصنّاع القرار والخبراء وعامة السكان. لذا، فنحن نهتم كذلك بالتركيز على التصور والسلوك الخاص بالعديد من التشكيلات الاجتماعية المختلفة، وعلى تقييم الفحص الأولي لعملية بناء المكان والكيفية التي يرتبط فيها الناس بالأمكنة.
ف.و.: أود التعقيب على ذلك، أنا أرى من وجهة نظرٍ عالمية، بأن المدن الخليجية تعتبر ظاهرة خاصة جداً. لذلك، ما كنا مهتمين به حقاً هو كيفية تحول نوع البناء العمراني ونوعية المدن المشيدة منذ نشوء الرؤية الجديدة التي بدأت في نهاية التسعينيات. ولهذا، كان البحث تفاعلياً ومثيراً للاهتمام بشكل كبير، لأن كل شيء كان في طور البناء، الكثير من التغيرات، استراتيجيات جديدة، مشاريع جديدة – كانت المدينة في حالة مستمرة من التجديد. ولهذا، فإن أي مدينة شهدت هذا التغيير، سواء دبي أو الدوحة (والدوحة طبعاً كانت واحدة من هذه الحالات الخاصة التي يمكننا من خلالها أن نرى المدينة يعاد بناؤها من الصفر في بداية العشرينيات) وهذا التوسع السريع، هذا النمو الضخم، وكأنه جزء من الأرقام القياسية العالمية بأشكاله المختلفة، مثل موضوع الهجرة متعددة الجنسيات نحو مكان واحد، وهو أمر لا بد من استكشافه والبحث فيه بالطبع.
د.م.: عندما يتم تحليل هذا النمو الحضري السريع في مدن الخليج، يود المرء لو يتم تحديد الجهات المعنية في التخطيط الحضري. وهنا أود أن أقتبس جزءاً من إحدى مقالاتك التي كتبتها عن الدوحة، حيث تقول: "في المدن الناشئة، هناك ثلاث أنواع من المستخدمين الذين لهم التأثير الأكبر على إنتاج المكان، وهم: الشركات والموظفون والمستثمرون؟" دكتور فلوريان، هل لك أن تشرح لنا كيف تؤثر هذه المجموعات الثلاث على نمو المساحات الحضرية في الدوحة؟ وهل لك أن تعطينا أمثلة محددة على ذلك؟
ف.و.: أعتقد أنه عندما تبني مدينة من الصفر، وهو الأمر الذي حاولنا اسكتشافه، فإن الأمر يعود كما وصفه موردوك في سبعينيات القرن الماضي، حيث تصبح المدن آلة من آلات النمو، وتنشأ محاور أساسية جديدة، لتكون من خلالها المدينة هي القطعة الخام والسلعة بحد ذاتها. وبالطبع، عندما تبدأ ببناء مدينة من الصفر (وخاصة إن كانت غنية جداً بالموارد الطبيعية مثل الحديد والنفط والغاز) فإنه سيكون هناك اهتمام كبير بمشاريع التطوير. وعندما تبدأ بإزالة القيود عن سوق العقار المحلي، فإنه من الطبيعي أن يبدأ المستثمرون والشركات بالانتباه إلى الإمكانات الهائلة للتطوير والنمو. ولهذا فإن الوضع كان خاصاً جداً: حيث أن الموقع الجغرافي السياسي يقع في الوسط، وسط كل مكان (وأنا أعني آسيا، ولكن أقصد كذلك أوروبا والغرب). لذا، كان هناك الكثير من الإمكانيات المتاحة هنا، وديناميكيات التطور التي نشأت ساعدت في انفتاح سوق العقار، وانتقال الشركات من الغرب ومن كل أنحاء العالم إلى الخليج -- والتي جلبت معها موظفيها، والمستثمرين – كل ذلك أدى إلى وجود الأسواق العقارية الحرة والتي بدورها طوّرت هذا النوع من النمو الهائل في إطار زمني قصير جداً. ولكن، أدى هذا الأمر إلى نشوء ظاهرة أخرى، وهي الاعتماد على النمو، لأنه بطبيعة الحال، عندما تبدأ مشروعاً كبيراً واحداً، مشروعاً ضخماً واحداً، يجب أن يتبعه المشروع التالي والذي بعده وهكذا، من أجل ضمان استمرارية طاقة النمو، ومن أجل الحفاظ على قطاع العمل والتوظيف، ومن أجل بناء هذا القطاع الخدمي الضخم الذي يصب بصالح مجالات الاقتصاد الأخرى، والتي تحتاج إلى فترة زمنية أطول كي تنمو. وإن اقتصاديات المعرفة وأنواع أخرى من الاقتصاد الأكثر تخصصاً، بحاجة للوقت حتى تتطور. والبنية التحتية والخدمات اللوجستية، بحاجة كذلك لعامل الوقت. لذا، تشكل لدينا هذا النوع الخاص من هندسة المدينة في الخليج، حينما لم يكن هناك الوقت الكثير لتحقيق هذه الرؤية الواسعة. وربما يمكن لأشرف أن يستفيض أكثر فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي، من ناحية التوظيف والموظفين.
أ.س.: بالفعل، نحن أمام مجموعة أساسية ضمن هذه المنظومة، وهم فعلياً الموظفون الأجانب، ويمثلون حوالي 85 % من التعداد السكاني في الدوحة. وفي مدن أخرى من الخليج، تزداد هذه النسبة. ولهذا، فيما يخص هذه المجموعة، نحن نرى تفضيلات جديدة لنمط الحياة، وخيارات الإسكان في البيئة الحضرية بأكملها. ونرى كذلك خياراتٍ جديدة ضمن المجال العام للمدينة، على سبيل المثال: الواجهات المائية، والشواطئ، ومناطق الملتقيات الثقافية ووجهات التسوق المهمة. وأصبح لهذه الأجزاء من المدينة معنى مختلف بوجود مجتمعات المهاجرين بمن فيهم المغتربين ذوي الاختصاص والمحترفين. ولهذا، ما نفعله هو دراسة مناطق عدة من المدينة والمعنى المرتبط بهذه المناطق بالنسبة لمجموعات مختلفة من المهاجرين، والذين يختلفون من ناحية المرجعيات الثقافية والاقتصادية-الاجتماعية. ومن هذه المناطق، سوق واقف ومرحلة إعادة بناءه وترميمه، أو مشروع التجديد العمراني لمشيرب، أو متحف الفنون الإسلامية في قطر. ويكمن التحدي في أن هذا المجتمع بأكمله هو مجتمع عابر ومؤقت. لذا، لدينا الآن مجتمع يصعب تعريفه أو تحديده، والمدينة مخططة ومصممة لمجتمعٍ غير معروف. الأمر الذي ينطبق على العديد من مدن الخليج. لذا، فالتحدي هو كيف يمكن لهذه المدن أن تقدم نفسها للمستقبل ولسكانه والمستخدمين حينها.
د.م.: أود العودة إلى ما قاله أشرف قبل قليل، عن أن المساحات الحضرية يتم تصمميها وتخططيها لمجتمع عابر، واسمحوا لي أن أسأل، أين يتم اتخاذ القرار هنا؟ وهل هناك أي اختلاف بالاهتمامات بين الشركات والموظفين والمستثمرين وبين الجهات الرسمية المسؤولة عن سن القوانين الحضرية في مدن الخليج؟
ف.و.: سؤالٌ جيدٌ جداً، وبالطبع، إن الحوكمة في الخليج كانت تتطور بسرعة، وتتأقلم مع هذه البيئة الجديدة، وقد بذلوا قصارى جهدهم لتحقيق التوازن بين كل هذه المصالح. لذا، نعتقد أن أكبر مشكلة هنا، بالطبع، هي الإطار الزمني المحدد للتطوير. عندما يكون لديك هجرة هائلة لملايين الأشخاص في منطقة واحدة لبناء هذه المدن، ويكون هناك نوعٌ من القوى المتضاربة عندما ينشأ سوق عقارات التملك الحر وعندما يتاح للمستثمرين الأجانب التملك العقاري بسهولة، حينها يكون أمامك الكثير من المهام لتنظيم هذه الأسواق، إلا أن اللوائح التنظيمية لم تكن قد وضعت بعد. ولهذا، فقد مرت أوقات تم فيها شراء العقارات في الصباح وبيعها في المساء. وطبعاً، سترتفع الأسعار حينها ويكون للأمر تبعات كثيرة. فمن جهة، هناك هذا النمو المذهل، وهذا العمل الرائع، والفرص المميزة، ولكن، بنفس الوقت، من منظور الحكومة، يبدو الأمر وكأنك أطلقت العنان أمام شيء ضخم جداً في فنائك الخلفي، وعليك الآن التحكم به بشكلٍ أو بآخر وإدارته جيداً. يتعين عليّ أن أقول إنه يجب التمييز بين ثلاثة تحدياتٍ أساسية تواجهها الحوكمة الآن في منطقة الخليج (وكانوا يعانون بسببها في السنوات العشر الماضية). التحدي الأول هو تقديم المشاريع السكنية بأسعارٍ معقولة: أعتقد أن المشاريع السكنية المتاحة لهذه المجتمعات المعقدة للغاية والمتنوعة، هو أحد التحديات، لأن هذه المجتمعات تتبدل، وهم يأتون ويرحلون، وأنت لا تعرف حقاً سياقهم الثقافي. لذا، فإن تفضيلات السكن وكل ما هو متعلق بذلك غير معروف. وهو أحد أكبر محاور البحث في مجالنا، في البحث الأكاديمي، لطالما كنا ندرس ديناميكيات الإسكان في منطقة الخليج. ومن ثم، هناك جانب آخر، بالطبع، ألا وهو التنقل والمواصلات: عندما ترتفع أسعار السكن، نكون أمام مشكلة أخرى، وهي أن المزيد والمزيد من المقيمين، وأفراد المجتمع المحلي كذلك، يتحتم عليهم الانتقال إلى الضواحي، مما يعني أنك قمت بزيادة أوقات التنقل لأداء جميع الأنشطة التي لديك، وليس الذهاب إلى العمل فحسب، بل الأخذ بعين الاعتبار الأنشطة الترفيهية كذلك. مما يخلق مشكلة الازدحام المروري الهائل، وهذه واحدة من المعضلات التي تواجهها أغلب مدن الخليج. ومرة أخرى، نحن أمام مشكلة ثانية تتعلق بالنمو وتوفير المساكن، لأنه يمكنك توفير المنازل بسرعة ضمن مجمعات منخفضة الارتفاع في الصحراء، لكن، يعني ذلك أنك ساهمت في زيادة الحركة المرورية. وبنفس الوقت، توجد هناك ظاهرة الاكتظاظ السكاني في الأحياء الداخلية بالمدينة، حيث يشترك الكثير من الوافدين أو العزاب ذوي الدخل المحدود في الشقق، وغالباً ما يضم المسكن عدداً يفوق المتوقع، مما يعني نشوء مشكلة في توفر مواقف السيارات ونوع آخر من مشاكل الحركة المرورية. وهناك قضية أخرى أود تسليط الضوء عليها، لأنها غالباً ما تكون خارج بؤرة الاهتمام، ألا وهي توفير الحكومة للبنية التحتية الاجتماعية. ونحن نتحدث عن المدارس بشكل خاص. لأنك إن أردت جذب الأفراد ذوي الدخل المتوسط والمرتفع، والمغتربين ذوي الخبرات الاحترافية والمتعلمين، لبناء اقتصاد مستدام ولفترات طويلة، فأنت تريد إبقاءهم هناك في أفضل أعمارهم، مثل الثلاثينات والأربعينات. أي في الوقت الذي يكون لديهم أطفال يرتادون المدارس، وتكون المدارس مهمةً للغاية لمن لديه أطفال. فلنفرض أنك فردٌ متوسط الدخل (وليس بمقدورك تحمل تكاليف أفضل مدرسة دولية) لذا فأنت الآن تعاني من أجل سد هذا الاحتياج المهم جداً في حياتك. وعنى ذلك أن الكثير من المغتربين ممن لديهم أطفال اضطروا لمغادرة الخليج حالما وصل أطفالهم سن دخول المدرسة، وبالطبع، نتج عن ذلك الكثير من الخسائر، وبالذات عندما تكون في طور بناء الاقتصاد، مثل بناء اقتصاد قطاعات محددة من الدولة. وهنالك عوامل أخرى قد تدفع الناس للخروج من منطقة الخليج. ما أعنيه أنا، علينا أن نتأكد من صحة النموذج المتبع بحد ذاته. لأنه متى ما وجد هذا النوع من النمو والتوسع الهائل، تصبح المدن سلعاً. ويصبح هذا الأمر تساؤلاً أساسياً علينا أن نبحث فيه: إذا كان يمكننا توقع استمرار أداءه في كل الجوانب في هذه السنوات العشرين أو الثلاثين الأولى. وربما تكون توقعاتهم أحياناً مرتفعة للغاية، بمعنى أنهم بحاجة لفترة محددة من الاندماج مع المكان، فترة من التروي، وحينها يمكن للناس أن يتمركزوا في المكان، لأنك بكل ببساطة خلقت مساحةً للعيش، وجذبت الناس للقدوم، والآن عليهم هم أن يبنوا هذه المساحة. فالأمر إذاً لا يشبه النموذج الحضري الاعتيادي الذي نشأ أغلب الناس عليه، والذي يقتضي عادة بناء الأمكنة من الأسفل إلى الأعلى، خطوةً بخطوة، بنفس الشكل الذي نراه في التاريخ عندما ننظر إلى المدن الأوروبية مثلاً، أو حتى عندما ننظر إلى مدن أخرى في الشرق الأوسط (كالقاهرة مثلاً أو غيرها). لذا، فالأمر مختلف، أنه نموذج عكسيٌ تماماً: أنت توفر المكان، تدعو الناس للقدوم، ولكن يكمن السؤال في الكيفية التي سيتبعها هؤلاء لجعل هذا المكان مكانهم الخاص. وهذا الجانب يفوق الحوكمة، وصدقاً، أعتقد أن نجاح التجربة يقتضي إبطاء النمو الاقتصادي وإبطاء عجلة التنمية بشكلٍ ما، ومن ثم إعطاء المجال للناس لبناء سوق العمل. ديان مهنا: يقودني هذا لطرح سؤالي التالي، والذي يدور نوعاً ما حول ملكية المساحات الحضرية التي تتفاعل معها. ونرى من خلال أبحاثك، أنك تحلل الترابط بين مصادر التنوع الاقتصادي، مثل بناء اقتصاد المعرفة، وتحول المساحة الحضرية. بروفيسور أشرف، هل لك أن تخبرنا إلى أي درجة تؤثر اقتصاديات المعرفة على الحياة الحضرية في مدن الخليج؟ أشرف سلامة: في الواقع هذا سؤالٌ آخر مهم، في سياق الحديث عن المدن الخليجية، وأود القول إن الاقتصاد المعرفي الناجح يقتضي، بطبيعة الحال، وجود مبانٍ بجودة عالية، وبيئات مناسبة، ونظم حضرية وخدمات بأعلى المعايير. إن السبب الأساسي هو استقطاب الخبرات وتقديم الأفضل لهم، لضمان بقائهم لمدة أطول، وحينها تكون جودة البيئة المبنية مهمة للغاية. وحين نصب تركيزنا على جودة البيئة الحضرية والمباني، يكون هناك حاجةٌ يمكن أن تؤدي إلى تحولاتٍ في عجلة التطوير الحضري بنواحٍ معينة. وكما ذكرتُ سابقاً، فإن هناك مناطق معينة ضمن المدينة تكتسب معانٍ مختلفة خاصة بها، أو أنها تتحول تلقائياً لتنافس مراكز مهمة راسخة في المدينة. على سبيل المثال، يمكن لنا أن نرى المناطق الشاطئية والواجهات المائية مثل منطقة الخليج الغربي وكل هذه المشاريع التطويرية تتنافس مع المركز القديم. ولهذا السبب يمكننا الآن أن نرى تحولات قيد التنفيذ داخل المركز القديم لإعادة دمجه مع المجتمع مرة أخرى، ولكي يكون فاعلاً من جديد في دورة الاقتصاد وبالتأكيد لا يمكننا أن نغفل عن أغراض التنوع الثقافي. ولهذا، فإن هذه الديناميكيات في غاية الأهمية، إلا أن السؤال الأهم هو: ما الذي ينطوي عليه مفهوم القابلية للعيش ضمن سياق الخليج واقتصاد المعرفة؟ بدايةً، من المهم جداً تعريف اقتصاد المعرفة. وغالباً ما يكون مصطلح "اقتصاد المعرفة" واسعاً وفضفاضاً في الخطاب الحضري، إلا أنه حين يكون ضمن سياق منطقة الخليج، فإنه يضع تركيزاً أكبر على أنشطة محددة مثل الجامعات العالمية، والخدمات المصرفية العالمية، وخدمات تكنولوجيات المعلومات العالمية، ومجالات تطوير ركود تكنولوجيا المعلومات، وتكون مناطق مثل مدينة مصدر، ومؤسسة قطر، ومناطق مثل المدن الإعلامية، تكون جميعها جزءاً من اقتصاد المعرفة الكلي. الآن، أين يمكننا أن نرى القابلية للعيش هنا؟ القابلية للعيش يمكن أن نلمسها من خلال مصطلحين مختلفين، وهي في الأساس متضمنة لهذه الازدواجية. والعديد من المصممين والمعماريين ينظرون إلى المفهوم على أنه مصطلح مادي فقط، حيث تكون المسافة بين المناطق والأمكنة المختلفة قابلة للقياس، ويمكن الوصول إلى معايير معينة لقياس جودة البيئة الحضرية من ناحية جاذبيتها ودرجة ارتفاع المباني، ومن حيث الانطباع العام، وعموماً يتضمن الأمر كل هذه المعايير القابلة للقياس في البيئة الحضرية. ولكن، هناك دائماً بعدٌ آخر غير ملموس يميل أغلب الناس إلى نسيانه، سواء كان في مجال الحكومة أو في مجتمع العمارة والتصميم، وهو الأمر الذي يرتبط بالعلاقة بين البيئة والناس: المعنى الحقيقي لجميع هذه الأشكال وكل هذه المساحات بالنسبة للسكان. إن مشاعر الأشخاص الذين يعيشون في هذه البيئات وتصوراتهم تكون ذات أهمية بالغة. ومع ذلك، بإمكاننا قياس هذا الجانب، لكنّ الأمر ليس بهذه السهولة، نظراً للتنوع السكاني. فعندما نقول ناس، يعني ذلك، أننا نشير إلى مجموعات عديدة بخلفيات مرجعية تعليمية واجتماعية-اقتصادية مختلفة. ولهذا، وبعبارات أكثر واقعية، يمكن رؤية التأثير الفعلي لاقتصاد المعرفة من خلال تطور المباني الشاهقة المتكاملة. على سبيل المثال، عوامل القرب بين المناطق السكنية وأماكن العمل والمساحات الاستهلاكية، أي مراكز التسوق. وفي وضع الدوحة، يمكننا الإشارة إلى مشروع الخليج الغربي، ومشروع اللؤلؤة: والتي نتجت جميعها عن اقتصاد المعرفة. بالإضافة إلى مساحات عامة جديدة شُيّدت حول المشاريع الأساسية، كما ذكرتُ سابقاً، السوق ومشروع مشيرب والمراكز التي بنيت في مجتمعات المغتربين السكنية ذوي الدخل العالي والمتوسط، أصبحت لها أهميتها في المدينة، وليس بالنسبة للسكان المحليين فحسب أو للطبقة العاملة، بل هناك مجموعة كبيرة من الجاليات الأخرى التي تستخدم هذه المساحات أيضاً.
د.م.: لقد ذكرت المجمعات السكنية الخاصة بالمغتربين في الدوحة، ولهذا، كيف يمكن أن تُعرّف المجمّع الحضري في المدينة الخليجية المعاصرة؟ وكيف يرتبط هذا التعريف بمفهوم "مجتمعات المطارات" الذي أشرت إليه في عملك؟
أ.س.: يمكنني القول إن المجمّع الحضري ليس بالضرورة هو حيزٌ مادي. إنه منظومة، وفكرٌ ينمو في أذهان الناس، إن فكرة المجتمع الواحد أو المجمعات تحتاج إلى عامل الوقت حتى تتطور وتتأسس. وعادة ما تنشأ وتتطور هذه المجتمعات عبر فترات من الزمن في منطقة مشتركة للعيش أو ضمن مساحة مادية مشتركة، أو كما ذكرتُ سابقاً، الوقت، وكذلك نظام قيم مشترك. جميع هذه العوامل، عندما تتكامل وتترابط على مدى فترة من الزمن، يمكننا حينها أن نشعر بوجود مجتمع فعلي. إن مشكلة العديد من المدن الخليجية هي التبديل السريع للمقيمين والمغتربين: يأتي الناس ويمكثون لبضع سنوات ثم يغادرون. ولذا، فإن مفهوم الانتماء للمجتمع الواحد لا يستمر، وبالتالي تنتج عنه أثارٌ سلبية. إن التجربة المشتركة بين المغتربين لفترة من الزمن يمكن أن ينشأ عنها ترابطٌ اجتماعي، ومشاركة اجتماعية فعّالة، ولكن ليس بالضرورة إحساس بالانتماء لمجتمع ما، لأن منهم من قد يرحل في العام التالي. لذلك، من المهم الانتباه لهذه الحالة ويجب تصنيفها جزءاً من مشروع الاستدامة الاجتماعية ككل. ونتيجة لذلك، عندما يتواصل أفراد من المجتمع بشكل فعّال ولمدة قصيرة من الوقت وهم يشتركون بنفس المرجعيات، فيمكن أن نرى ظهور المجتمعات والمجمعات المتوازية. وضمن المجتمع الواحد، يمكننا أن نرى عدداً من المجتمعات الصغيرة التي تعمل معاً، وما يوحدهم كنظامٍ قيمي هو خلفياتهم الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. لذا، وعلى سبيل المثال، يمكن أن نرى أن العاملين في الجامعات يشكلون شبكة اجتماعية، وضمن هذه الشبكة يمكن أن نجد من هم من نفس الجنسية يتقربون من بعض ويتفاعلون اجتماعياً. ويصبح هذا أحد المعايير المفضلة ويأتي على حساب الانتماء للمجتمع الأوسع، ويمكننا أن نلحظ هذا الأمر بوضوح تامٍ جداً في الخليج. ولكن، هي كذلك ظاهرة ليست خاصة فقط بمنطقة الخليج: بل يمكن ملاحظتها في أماكن مختلفة من العالم. وهكذا، فإن المجموعات التي تشترك بالخلفيات الثقافية والاجتماعية الاقتصادية عادةً ما تفضل التواصل مع بعضها البعض، ومن هذا المنطلق يمكننا أن نرى فكرة المجتمعات المتوازية. ولكن يمكننا أيضاً ملاحظة أن الإحساس بالمجتمعات يمكن أن يتطور افتراضياً: أي أن وسائل التوصل الاجتماعي ومواقع الانترنت الخاصة بالمغتربين يمكن أن نصنفها كمواقع افتراضية مهمة، وهي ليست أماكن ذات حيزٍ مادي، ويمكن لها أن توضح أشكال المنظومة الاجتماعية، والتفاعل الاجتماعي في مدن الخليج.
د.م.: نعم بالتأكيد، المنصة الافتراضية تصبح مساحة افتراضية للمشاركة. فلوريان، هل هناك شيء آخر تود أن تضيفه؟
ف.و.: نعم، أود إضافة جزءٍ من تجربتي الخاصة عندما انتقلت للعيش في الخليج، ومكثت هناك لمدة ثلاث سنوات. وأظن بأنه على الرغم من وجود الكثير من الناس الذين نتفاعل معهم، فإن الكثير منهم لديه نية مسبقة للبقاء لمدة عامين أو ثلاثة أو أربعة. ويكون هناك نوعٌ من العمق في شكل التفاعل الاجتماعي، لأن الجميع، بشكل أو بآخر، يشتركون بهذه النقطة على وجه الخصوص، وتجدنا جميعنا ضمن مركبٍ واحد، ويمكن أن نغادر في أي وقت. ولكن، ما يزال هناك ذاك الإحساس بوجود المجتمع، إحساسٌ بالتشابه، فنحن جميعاً أشخاص قدموا من الخارج ولسنا دائمين، ونشترك كلنا بتجربة العيش في الخليج، وأننا نعمل هنا وأننا نتفاعل مع المدينة. ولهذا أنا أعتقد أن الكثيرين يتعاملون مع المدن الخليجية (خاصة لو كانوا ميسوري الحال) ليس على أنها مدن فيها إشكاليات معينة، بل على أنها تجربة ممتعة للغاية، فهم يقضون الكثير من أوقات الترفيه والمتعة ويلتقون بالأصدقاء. وأنا أعكس ذلك من خلال الوقت الذي قضيته هنا، لقد كانت تجربة لطيفة للغاية في مرحلة من مراحل حياتي، وربما كنت سأندم لو لم أعش تلك الفترة. وفي الوقت نفسه، أعتقد أنه من منظور الدعم الاقتصادي، ومن وجهة نظري أنا في التطوير، بالنسبة للمدينة نفسها، أن ما يتم فعلاً هو إعادة الاستثمار من خلال هؤلاء الناس، منا نحن على وجه التحديد، وهنا موطن المشكلة، لأن الناس يستمتعون في مراكز التسوق والخروج في إجازاتٍ فندقية ويختبرون كل ما هو ممتع. وهذه هي ثقافة الاستهلاك التي يتم إمدادها بشكل دائم. ولكن ما يجب أن يتم عرضه هو القدرة على توفير المسكن الملائم على المدى الطويل، والبنية التحتية الاجتماعية والخدمات. ولهذا فأنا أعتقد أن هذا الموضوع بحثيٌّ بامتياز، ومن خلال معاينة هذا المفهوم من خلال الخلفيات الثقافية المختلفة، وجدنا أن الكثير من مواطني جنوب آسيا والشرق الأوسط كانت لديهم مخططات للبقاء لفترات أطول في منطقة الخليج. في الواقع لم يكن التفكير في الرحيل صريحاً للغاية، أي لم يكن يوجد هناك من يقول "آه لقد مضت ثلاث سنوات، الآن سأرحل". على العكس، كان هناك رغبة في البقاء والاستثمار، لكن لم يكن هناك نوع من الاستقرار أو لم نكن متأكدين إن كان بإمكاننا البقاء. وهذا بالطبع له تأثير ولو بسيط على درجة التفاني، لأن عملياً لا تعلم إن كنت ستحصل على عقد جديد أو إن كنت ستبقى. وهناك استقصاء آخر مثير للاهتمام، وهو أن ذوي الدخل العالي والأقل دخلاً هم من يتم استبدالهم عادة في الخليج. أي إن كنت متخصصاً في الخدمات المصرفية قادمٌ من الخارج وتعمل في القطاع المالي، فأنت ربما تبقى لمدة عامٍ أو حتى تبقى من أجل بناء شيء محدد واحدٍ فقط في القطاع، ومن ثم تغادر، وهكذا تكون دائماً متنقلاً بين أماكن مختلفة، أي أنك لست مستقرٌ فعلاً في الخليج. ولهذا فإن الكثير من صنّاع القرار في العديد من الشركات الخاصة لا يعتمدون فكرة الاستقرار النهائي في الخليج، أي أنهم يتعاملون مع الأمر من منطلق عالميّ. ومن ثم هناك النسبة الكبيرة من السكان الذين قدموا من جنوب آسيا والنيبال وباكستان والهند، والذين عادةً ما يعملون في مواقع البناء والإنشاءات، وهم العمالة ذوي الدخل المنخفض. ويأتي هؤلاء الناس للخليج للحصول على هذه الفرصة، للحصول على هذا الراتب الضئيل (والذي ما يزال دخلاً أفضل ووضعاً أفضل مما كانوا يحصلون عليه في بلدانهم) وهم غالباً ما يأتون من أحياء فقيرة ومن مجتمعات مضطربة نوعاً ما. وبشكلٍ ما، يشكلون جزءاً كبيراً من التعداد السكاني، وأظن أنه أحياناً لا يتم إدراك كيف يكون لهذه الأغلبية، ونحن نتحدث عن 40 إلى 50 % من السكان في كل مدينة، كيف يمكن لهم التأثير في المجال الحضري العمراني، وفي صورة المدينة، لأنه لا يمكنك النظر فقط إلى روعة المشاريع الضخمة والمعالم الرئيسية والأبراج. فهذه صورةٌ واحدة قد تصلك. إلا أن الصورة الأخرى التي تراها عندما تتأمل في المدينة، وتعيش فيها، وتتنفسها، هي صورة الناس المحيطين بك. وأرى أنه يتم أحياناً التقليل من شأن تأثير هؤلاء العمال الزوار والقادمين من خلفيات مضطربة ومن مدنٍ نامية، وكيف لهذا النمط أن يؤثر على صورة المدينة وكيف أنه أمر يمكنك أنت أيضاً الإقرار به أيضاً عندما تعيش في الخليج. صورة الألم والمعاناة التي يحس بها هؤلاء الأشخاص، لأنهم ببساطة يعيشون بعيداً عن عائلاتهم، ويعيشون بقلقٍ دائم، ربما القلق على طفلٍ مريض في الهند، وكل هذا يشكل التركيبة التي تُعاش ويتم إدراكها. وهي حالة خاصة للغاية. وبالتالي فإنها تخلق أيضاً نوعاً مهماً من التطوير المجتمعي، أو الهندسة الاجتماعية، بطرقٍ عدة، وتخلق تعلقاً معقداً بالمكان.
د.م.: أظن أننا الآن توسعنا في العديد من العناصر المكونة للبيئة الحضرية في مدن الخليج. أود الآن أن أختم بالسؤال عن نظرتكما للتحضر المستدام في منطقة الخليج اليوم وفي المستقبل؟
ف.و.: نعم، أعتقد أن التحدي الأكبر، والذي تطرقنا إليه أثناء الحديث، هو هذا الاعتماد على النمو والتوسع المستمر للمدن وإعادة الابتكار الدائمة واستمرارية ظهور الأحداث والمشاريع الضخمة، والمزيد من القادمين الجدد والمجتمعات الجديدة. وهذا النوع من الاعتماد هو في الواقع يمثل إشكالية فيما يخص توفر الإمدادات والمستلزمات التي نحتاجها مجتمع. ولكن هناك أيضاً جانب التنوع الاقتصادي، لأنه إن كان هناك هذا النمو السريع سيكون من الأسهل تطوير المشاريع الكبيرة، وإمداد جميع قطاعات الخدمات، من صناعة السيارات وما إلى ذلك من إمكانيات متاحة. إذن، هذا هو نوع الكفاءة التي نحصل عليها. وهو أمر يمثل مشكلة كبيرة بالنسبة للحافز الفردي لريادة الأعمال. وعندما نفكر في المدن على أنها نوعٌ من أنواع الأسواق الديناميكية، حيث يأتي الناس لتطوير السوق، فهذا هو ما ستكون عليه المدينة، وهذا هو فعلاً المكان الذي اتجهنا نحوه لبناء هذه الأنماط، حيث بدأ الناس بتبادل سلعهم وخدماتهم أولاً، ومن ثم برزت الثقافة بعدها، وهكذا أصبح لديك هذا النوع من المجتمعات والشبكات الاجتماعية. وفيما يخص المدن الخليجية في الفترة التي سبقت الطفرة وقبل ظهور النفط، كانت المجتمعات متباعدة وكان الناس يعيشون ضمن الأحياء السكنية، وكان هناك السوق والمسجد، ويمكن أن نتصور أنواع التفاعل القائمة، وكان تركيب المجمعات السكنية واضحاً ومنطقياً، حيث شكل مجتمعاً قائماً على القواعد الأساسية ثم بُنيَ عليها شتى مجالات الحياة وتفاعلاتها. وهكذا، إن استبعدنا ذلك الحافز لريادة الأعمال، وهو الأمر الذي توصلنا له في أبحاثنا، وعندما تلاحظ السكان المهاجرين الذين قدموا إلى الخليج في الستينيات والسبعينيات وكانوا قادرين على إقامة مشاريعهم الخاصة، ومطاعمهم وما إلى ذلك، على مدار السنوات الماضية. ترى أنهم بدأوا بمواجهة التحديات بشكل أكبر خلال العشرين عاماً الماضية، وذلك بسبب نمط التطور القائم، وسرعته وحجمه، فقد ارتفعت أسعار إيجارات المحلات والشقق، واضطروا على مغادرة أحيائهم القديمة وانتقلوا إلى الأطراف. وينطبق نفس الوضع بالنسبة للسكان المحليين، الذين عانوا من مشكلة النمو نفسها.
أعتقد أنه مع كوفيد-19 والركود العالمي الذي يمكن أن نراه، يمكننا أن نرى كذلك أن هناك فرصة كبيرة لمنطقة الخليج بالتحديد. على الرغم من حقيقة أنه سيكون هناك تراجعٌ اقتصاديّ، لكن أعتقد أنه يمكن أن تكون هناك فرصة لاستعادة القوى، والعودة للابتكار والتحفيز وأن يتفانى الناس من أجل تطوير الاقتصاد بالموارد المتاحة لديهم. ما أقوله هو أن البنية التحتية موجودة مسبقاً، والمدينة قائمة، والآن هي بحاجة لهذه الدفعة الاقتصادية من جديد، وأن يبدأ الناس في البيع والتجارة من جديد. وأن يفكروا في كيفية إعادة دعم شبكات التجارة، والعودة إلى المناطق الخاصة بالدعم الاقتصادي والتجارة، كالهند أو غيرها، وأن يستمر دعم المجتمعات والتطوير. ومن مختلف النواحي، أعتقد أن الإمكانية الأكبر في الخليج تكمن فعلياً في أهمية موقعه الجغرافي-السياسي: نظراً لوجود طرق التجارة القديمة، وثراء نوع التراث العالمي للعديد من ثقافات الشرق الأوسط المختلفة التي تلتقي معاً. كما أن المساحات الحضرية والمدينة بحد ذاتها والعمارة، جميعها عوامل يمكن أن تستجيب لهذا النوع من البناء ويمكن لها أن تطور ذاك النمط من الأحياء من جديد، وتلك المجتمعات. التي تُبنى خارج سياق المجمعات ومراكز التسوق.
وأعتقد أن هذا هو التحدي الأكبر، والفرصة الأكبر بذات الوقت. لذا فإنه على المعماريين على ينظروا لأمر على أنه قوة محركة، يمكن من خلالها إعادة بناء الأماكن بطريقة يمكن أن ينسجم الناس فيها أكثر، وأن يتفاعلوا مع المكان. وعلى مدار السنوات القادمة، يمكن للمدن أن تتقلص حجماً. وهو أمر غالباً ما نناقشه ونتجادل فيه، ألا وهو البحث في شكل المدينة الخليجية المستقبلية. وأعتقد أن المدينة الأصغر حجماً ليست بالضرورة مدينة سيئة، فنحن لسنا بحاجة ملايين الناس يعيشون في الصحراء. فالمدينة لديها فرصة كبيرة لتكون مركزاً اقتصادياً. ولكن بنفس الوقت يمكن أن تكون ذات مجتمعٍ أصغر. ولكن حينها تكون أهمية الجودة بارزة، ومطلوبة، ويكون على المعماريين أن يقدموا ما يحتاجه الناس فعلاً فيما يخص أماكن التفاعل البشري وجودة المسكن. وربما يمكن لأشرف أن يتحدث أكثر عن هذا الجانب.
أ.س.: نعم، إن بعض النقاط التي تحدث عنها فلوريان هي في الواقع حساسة ومهمة للغاية، وخاصة من المنظور البيئي والاقتصادي، كجزءٍ من الأجندة الكاملة للبناء الحضري المستدام والمدن المستدامة. ولكن، واحدٌ من أهم العناصر في سياق عملنا، هو العنصر البشري، وكيف أن هذا العنصر ديناميكي جداً في سياق منطقة الخليج. فنحن عندما نذهب إلى أي مدينة أخرى في العالم، يكون لدينا مجموعة سكانية موحدة. وفي الوضع الحالي للخليج، فإن التنوع السكاني والأبعاد الاجتماعية المرتبط بذلك التنوع والعوامل الاجتماعية، أثناء ارتباطهم بالمدينة والمباني والأحياء، يصبحون عوامل مهمة للغاية وحرجة نوعاً ما. لذلك، فإن جزءاً من عملنا، إضافةً إلى دراسة وضع مجتمعات المغتربين ذوي الدخل المتوسط والمرتفع، يأتي في إطار البحث في مفاهيم التفاعل المكاني للمغتربين وفئة العمال، في محاولةٍ لفهم ديناميكية المكان وارتباطه بهذه المجموعات.
والأمر المثير للاهتمام حقاً هو أنه يمكننا أن نرى الازدواجية في مدن الخليج حيث تبتعد الحوكمة الآن عن أساليب الحكم التقليدي الذي كان سمة أساسية لصنع القرار في مدن الخليج. أي فكرة الزعيم القبلي الذي يتخذ القرارات بشأن كيفية تشكيل المنطقة حلّ محلها الآن سلطات التخطيط الحديثة ووزارة التخطيط وعامل التوجيه وجميع الجوانب المتعلقة بالنموذج الغربي في طريقة التفكير في الحكم. نحن نبتعد عن الحوكمة التقليدية ولكن في الوقت نفسه، ندعو إلى تبني قيم التراث والقيم الثقافية وتلبية احتياجات السكان المحليين؛ لذا فإن هذا النوع من الازدواجية هو في الأساس صراعٌ قائم. وهذا يمكن أن يحدث مع أي المجتمعات وأي مدن تمر بعملية تحوّل مستمرة.
وكمعماريين ومصممين حضريين، فنحن نتحدث عن بناء المكان، وإدارة المكان، والتعلق بالمكان وخصائص العمارة الجيدة وكيف يجب أن يتجذر هذا في العلاقة الناجحة بين الناس والمكان، وما هي كل هذه الصور التي نراها. وكما ذكر فلوريان قبل قليل. إن الأمر لا يتعلق بهذا المشهد المذهل فقط، فهناك مناطق خلف الكواليس نحتاج أن نعيرها اهتمامنا. كيف تتم عملية تطويرها؟ كيف استيعابها للسكان؟ كيف تتم تلبية الاحتياجات الاجتماعية والتطلعات؟ وهذا ما يعنيه مصطلح الاستدامة الاجتماعية، وهو بُعد مهم من أبعاد التحضر المستدام. إلا أن السؤال المهم هو: ما هو المجتمع الذي نصمم له؟ ومن سيستخدم هذه الأماكن في العشرين أو الثلاثين أو الخمسين سنة القادمة؟ يجب أن يكون هذا جزءاً واضحاً من الرؤى المستقبلية للمدن الخليجية، بما في ذلك المدن والمناطق الرئيسية داخل الخليج.
وكما ذكر فلوريان، فإن فترة التوقف التي سببها كوفيد -19 هي لصالح المدينة الخليجية بشكل عام. من الناحيتين البيئية والاجتماعية، وهي مفيدة لأنها بمثابة وقفة للتفكير وكسر دورة النمو، وهو أمر جيد جداً ويصب في صالح التطور المادي للمدينة. حيث يمكن إعادة تصور العديد من الأحياء والمراكز الحضرية لاستيعاب الأنشطة المختلفة بدلاً من التوسع. لا نحتاج مدن جديدة. ولسنا بحاجة إلى تطورات جديدة. فلماذا إذاً لا نركز على التطورات الحالية والديناميكيات الاجتماعية التي تحدث داخلها؟ ولذلك أود أن أقول إن تعزيز التجارب المكانية على نطاق أصغر سيكون الطريق إلى التقدم في المدينة الخليجية.
د.م.: في الواقع، بدأت فكرة البرنامج أثناء فترة الحجر التي عشناها بسبب فايروس كوفيد-19، ويبدو أن العديد من القطاعات قد استفادت فعلاً من مواضيع الحلقات التي يطرحها. لقد ساعدنا هذا البرنامج كي ندرك أنه يمكن للمعماريين والمخططين الحضريين والباحثين الاستفادة من هذه المعارف من خلال منصة متعددة التخصصات، وفعلياً هنا يكمن دورنا. أود أن أجدد شكري لكما على وقتكما والرؤية الغنية التي شاركتموها معنا اليوم عن الاستدامة الحضرية في الخليج.
أ.س.: شكراً لك جزيلاً على منحنا الفرصة لمشاركة أعمالنا ووضعها في السياق الصحيح ضمن الأسئلة التي طرحتيها اليوم، لأن الأمر يعد بغاية الأهمية بالنسبة للباحثين والأكاديميين والأخصائيين بأن يطلعوا على وجهات نظر الآخرين.
(الهوية البصرية بإذن: ترينالي الشارقة للعمارة، الصورة بإذن: أشرف سلامة وفلوريان ويدمان، تقنية التسجيل الصوتي: Blue Dot Sessions)