فرح النقيب، هي أستاذ مساعد في علم التاريخ بجامعة ولاية كاليفورنيا للعلوم التطبيقية في سان لويس أوبيسبو. وحتى عام 2018 كانت النقيب أستاذاً مشاركاً في التاريخ ومدير مركز دراسات الخليج في @auk_official. حصلت على شهادة الدكتوراه عام 2011 وعلى الماجستير عام 2006 في التاريخ من كلية الدراسات الأفريقية والشرقية في لندن. تركز أبحاث النقيب على التاريخ الاجتماعي الحضري في الكويت قبل النفط وبعده، وعن هذا الموضوع كتبت كتابها الحائز على جائزة تقديرية بعنوان "تحول الكويت: تاريخ النفط والحياة الحضرية" (مطبعة جامعة ستانفورد، 2016) كما نشرت العديد من المقالات في عدد من المجلات المرموقة والأعداد المتخصصة. ويركز بحثها الحالي
على تحليل الذاكرة الجماعية، والنسيان، والحنين، وعلاقتهم بالحداثة في الخليج العربي.
نص الحلقة:
ف.ا.: مرحباً جميعاً، معكم فرح الخوري، معمارية في ترينالي الشارقة للعمارة. ويسرني أن أقدم لكم ضيفتنا ضمن السلسلة الثانية من حوارات الترينالي، بعنوان: "العمارة والمدينة"، فرح النقيب. الأستاذ المساعد في علم التاريخ بجامعة ولاية كاليفورنيا للعلوم التطبيقية في سان لويس أوبيسبو. وتركز النقيب في أبحاثها على دول الخليج العربي وخاصة دولة الكويت. وألفت كتاب "تحول الكويت: تاريخ النفط والحياة الحضرية" في عام 2016. كما نشرت العديد من المقالات في عدد من المجلات المرموقة والأعداد المتخصصة. ويركز بحثها الحالي على تحليل الذاكرة الجماعية، والنسيان، والحنين، وعلاقتهم بالحداثة في الخليج العربي. أهلاً وسهلاً فرح.
ف.ن.: أهلاً بكِ فرح، يسعدني أن أكون معكم في هذا الحوار اليوم.
ف.ا.: ويسعدنا أن تكوني بيننا، بداية، أود أن أسألك عن سبب تركيزك على العلاقة بين المشهد الحضري في الكويت وبين السلوك الاجتماعي لسكانها؟
ف.ن.: أعتقد أن جزءاً كبيراً من عملي الذي أنجزته عن الكويت نبع من اهتمامي الشخصي في الوصول لفهمٍ أفضل لمجتمعي الذي أنتمي إليه. لقد ولدت وترعرعت في الكويت، وبعد فترة الغزو في التسعينيات، وحين كنت أنهي دراستي الثانوية، بدأت أدرك مدى تغيّر المدينة وناسها. لقد تغير المجتمع بشكل ملحوظ عن الفترة التي أذكرها أثناء نشأتي. أصبح محافظاً أكثر وأقل انفتاحاً على العالم. ولهذا السبب بدأت أبحاثي وأنا طالبة في الجامعة وتابعت ذلك لاحقاً أثناء فترة الدراسات العليا. كنت أحاول فهم التحولات التي طرأت على المجتمع الذي نشأت فيه، والذي كنتُ جزءاً منه. وبدأت بعدها في تحليل الأمور ضمن سياق المدينة والمشهد الحضري.
وكنت قد بدأت البحث في هذه المجالات، والتفكير بمواضيع عدة مثل المسكن. ولكن حقيقة كان ذلك بفضل إلهام مرشدتي في الدراسات العليا ناليدا فوكارو، وهي مؤرخة حضرية رائدة في البحرين والخليج. وهي من أهم من عمل في مجال تاريخ الخليج، وليس ذلك فحسب، بل ركزت على المشهد الحضري فيه، وكانت حينها تعمل على دراسة البحرين. لذا كانت تشجعني على اتخاذ الخطوات التي كنت أحاول المضي فيها: أن أركز على الأبحاث التاريخية، ومن هذا المنطلق التفكير في الأثر الذي أحدثه المشهد الحضري المتغير على تحول المجتمع.
حينما ننظر إلى منطقة مثل الخليج، نلحظ أن أكثر التحولات وضوحاً قد حدثت بعد الانتقال من مرحلة ما قبل النفط إلى مرحلة النفط، ألا وهي التحول السريع والجذري في نمط البيئية المبنية. ولهذا، نرى أثر التغير على طريقة معيشتنا، وبالتالي تصرفاتنا وكيف نتعامل مع بعضنا البعض، لا يمكننا تجاهل هذا الأمر أو التقليل من شأنه. إنه من أكبر الأمور التي شكّلت هذا التحول عبر العقود الماضية.
ف.ا.: في مقالك الذي كان بعنوان "تشريع ما هو غير شرعي: قضية حداثة الكويت المنسية"، تحللين فيه أسباب محو عصر الكويت الحديث في ظل البيئة المادية والرواية التاريخية. برأيك ما هي الفترة التي تحدد العصر الحديث في الكويت وما هي العوامل التي أدت هذا المسح ومتى بدأت هذه الظاهرة؟
ف.ن.: حسناً، في تعريفي للحقبة الحديثة في الكويت تندرج ضمن العقود الأولى لظهور النفط في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. ولكن أريد أن أشير إلا أن هذه العقود لا تحدد فترة الحداثة الفعلية للكويت، أي أنها لا تعني أن الكويت قبل النفط هي الكويت قبل الحداثة أو أنها لم تكن حديثة. بل على العكس كان المجتمع الكويتي مجتمعاً حديثاً للغاية، قبل ظهور النفط بوقتٍ طويل. لقد كانت الكويت مساهمة بشكل كبير في خطوط التجارة عبر المحيط الهندي، لذا كانت جزءاً من هذا العالم الحديث ومن الاقتصاد العالمي، قبل النفط. ولكن ما أعنيه أنا هو التغيير الذي حدث بعد عام 1950، مع التحول في سوق النفط – أي بعد وصول عبد الله السالم إلى السلطة – عندما بدأت التطورات الناتجة عن ظهور النفط في ذاك الوقت. وهذا بدوره أنتج حالة خاصة من التغيير وهو ما يقصد به بالحداثة حينها: كان كل شيء يتحول، وكل شيء يتغير، وكان الكويتيون في تلك الفترة يحتضنون هذا التحول المفاجئ.
هناك باحث دائماً ما أشير إليه، اسمه ريتشارد دينيس، يعرّف الحداثة على أنها صدمة الشيء الجديد والإدراك المفاجئ أن الوضع الآن لم يعد كما كان، وأن هناك شيء يتغير بشكل جذري. وهذا ما كان يحدث بعد عام 1950. وكان هناك العديد من الطلاب الشباب الذي كتبوا عن فكرة النهضة هذه، اليقظة، نهضة المجتمع، وهذه هي الفترة التي أشير إليها، أنها بدأت فيها الحداثة الجديدة بعد الخمسينات. وخصوصاً الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، هي الفترة التي أقول إنها فترة العصر الذهبي في الكويت، وكان هذا على مستوى الثقافة والفنون ومختلف المجالات. ولكن أنا أبحث منذ البدايات في الخمسينيات، ويمكنني القول، حتى الثمانينيات، أتحدث عن هذه الفترة المحددة والمميزة فعلاً من التحول.
عندما أُعرّف الحقبة الحديثة، لا أقتصر فقط على التغيرات المادية والتحديث الذي حصل، بل وأبحث في الإحساس بالوقت والحماس والطريقة التي حددها الناس لأنفسهم عن معنى أن يكونوا ضمن دائرة الحداثة الاجتماعية والسياسية في ذلك الوقت. وأود أن أقول إن الأمر بدأ بالانحسار في الثمانينات، بعد أزمة سوق المناخ، وانهيار سوق الأسهم في الكويت عام 1982، والتراجع الاقتصادي الذي بدأ في الثمانينيات، الذي استمر بالتأكيد بعد الغزو. يمثل الغزو منعطفاً مفصلياً ونهايةً لما أقول عنه العقود الأولى للحقبة الحديثة في الكويت بعد النفط.
الآن، أنتِ سألتِ عن العوامل التي تسببت في حالة المسح، من الصعب تحديد العوامل بدقة. إنه أمر أحاول التحقيق فيه والبحث عنه منذ أعوامٍ عدة. أنا أرى، كما ذكرت مسبقاً، بأن الغزو كان نقطة محورية، ولكن ليس فقط بمعنى أن الكويت تعرضت للاحتلال ولذلك تدمرت على أكثر من مستوى ومنها البنية التحتية، ولكنها فقدت الكثير مما تم بناؤه في العقود التي سبقت ذلك. لقد أعاد الكويت بالفعل مراحل كثيرة نحو الوراء وعلى شتى المستويات.
ولكني أرى كذلك أن الغزو مثّل، بشكلٍ أو بآخر، فشل المشروع الحداثي. وبمعنى آخر دور الكويت في التخطيط الاقتصادي السليم آنذاك، حيث كانت هناك ممارسات أدت إلى خلق التوتر في المنطقة وفي العلاقات مع الجيران، وكان ذلك بسبب الحاجة إلى دعم الاقتصاد بعد انهيار سوق المناخ. لذا، كان هناك عمليات تشافٍ في النظام، وهذا نتاج فشلٍ منهجي في النهج المتبع. إن الكويت قبل الغزو لم يكن لديها برلمان، لذا، فإن العديد من القرارات التي تم اتخاذها أثناء فترة التوتر بين الكويت والعراق لم تشمل قرارات جماهيرية أو لم تكن بمشاركة الرأي العام من خلال برلمان معتمد.
ولا أعتقد أن عملية مسح آثار الحداثة تم بقرار واضح، أو عن وعي، ولكن ما أظنه أن الفترة التي تلت الغزو، كانت عودة لفترة ما قبل النفط، وأظن أنها كانت مرحلة تنوي بناء الهوية الوطنية الكويتية المستقلة. ربما بشكلٍ يؤكد على الاستقلال والوحدة، إلا أن جزءاً من هذه الهوية كان متأصلاً بالفترة التي سبقت نهضة النفط. وكما نرى، هذه الفترة تم محوها بالكامل ونسيانها مع العقود الأولى المبكرة لظهور النفط، ومن ثم عادت فجأة إلى الظهور. إن هذه العقود بين الفترتين تم نسيانها تماماً أو تم إبعادها من الخطاب العام. وفجأة أصبحنا نرى هذا الرابط (وخاصة الآن، في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وما بعد ذلك) حيث أصبح هناك تركيز أكثر على إحياء صناعة التراث التي تربط بشكل مباشر فترة ما قبل النفط بالحاضر، وبشكل ما يتم التغافل عن العقود التي كانت قبل الغزو. لم تعد تعتبر جزءاً معتمداً من تاريخنا أو تراثنا، كي نعي حقاً المعنى الكامل لأن تكون كويتياً. وبشكل ما، علينا أن نعود بالزمن، لفترة ما قبل النفط، وقبل تبعات الحداثة، والتغير الذي أتى من الخارج وغيّر من هويتنا ومن نكون.
ف.ا.: إن غزو الكويت حالة فريدة ضمن السياق الخليجي بشكلٍ عام، ولكن هل ترين أن هناك توازٍ بين مدنٍ خليجية أخرى خلال تلك الفترة، فيما يخص الإجراء المتبع في محاولة تأسيس هوية وطنية، أو خلق رواية تاريخية بديلة؟
ف.ن.: بالطبع، أعتقد أننا نرى ميلاً في الخليج إلى التأكيد على ما يمكن تسميته بالهوية الوطنية، تلك الهوية التاريخية الوطنية، وميلٌ للتأكيد على فترة ما قبل النفط. حتى من ناحية المشهد الحضري للبيئة المبنية. إنه لمن الشائع الآن أن نرى هذا التجاور بين ما كان يعرف بمنزل ما قبل النفط أو جامع ما قبل النفط بقرب ناطحات السحاب الجديدة اللامعة.
وهو الأمر الذي أناقشه من خلال آخر ما نشرته، والذي يمكن ملاحظته بين مختلف دول الخليج، وهي الطريقة التي تتشكل فيها هذه الرواية الخطية للتاريخ. تقدم لنا خطاً مستقيماً بين الماضي وفترة ما قبل النفط والآن، وكأنها قفزة بطولية من ذاك الماضي البسيط إلى هذا الحاضر والمستقبل المفرط بمعطياته، لاغيةً تلك العقود التي كانت بين هاتين الفترتين. وخصوصاً في الكويت التي بدأت هذا التحول في بداية الخمسينيات. بينما نجد أنه في مناطق أخرى من الخليج كانت البداية بطيئة نوعاً ما.
هناك باحثٌ مميز، لا أعلم إن كنتِ تعرفينه، أحمد قانا، كتب عن دبي، وأحد الأمور التي تحدث عنها، مجدداً، ضمن سياق دبي، هو إحياء ما يسميه القرية الزائلة، القرية التي كانت قبل ظهور النفط، والمتمركزة حول روح المجتمع والعائلة، هذا الجزء من الماضي بالتحديد، هو ما يتم وضعه جزءاً من هوية دبي.
ولكن إن أمعنا النظر في العقود المتوسطة بين المرحلتين، والتي تم تركها خارج الرواية التاريخية، الخمسينيات على سبيل المثال، عبر مختلف دول الخليج، نجدها فترة عقدٍ مضطرب. كان عقداً مليئاً بالمظاهرات القومية العربية والاحتجاجات. الأمر الذي عارضه البريطانيون، حتى أنهم عارضوه لدرجة أنهم كانوا يدعمون بعض العائلات الحاكمة. وفي المقابل كان هناك معارضة شديدة لشركات النفط، وكان هناك إضرابات عمالية في قطاع النفط.
عُرف هذا الموضوع أكثر في الكويت، نحن نعلم بشأن هذه الأحداث، أي الخمسينيات والحركة القومية العربية وكل ما كان يحدث في الكويت. ولكن هذه الأمور كانت تحدث بمختلف مدن ودول الخليج، مثل قطر ودبي، وفي المنطقة جميعها: كانت هناك حركات شعبوية قوية. مثلما حدث في عام 1956، اعتراضاً على الوجود البريطاني في أزمة السويس في مصر، كانت هناك تحركات ضخمة في الخليج وكانت تهدد الدول والحكام. لذا عندما نبدأ في النظر إلى ما كان يحدث في هذه العقود، يمكننا أن نلمح أسباب الرغبة في نسيانها أو مسحها. ربما لأنها تمثل فترة من النمو البطيء، مثل حالة الكويت. لكن كما ذكرت سابقاً كانت تتسم هذه الفترات بإحساس من الحماس والتفاؤل، لذا ربما هي تذكير بالإخفاقات وبأننا لم نصبح المجتمع الذي كنا نطمح له آنذاك. ولكن أنا أرى أن لكل مكان خصوصيته، ولا سيما الكويت لأنها خاضت تجربة مغايرة نتيجة لتعرضها للغزو.
ف.ا.: في أعمالك، عندما تتحدثين عن تطور الكويت وتأسيس ضواحي المدينة، هل ترين أن تقسيم مدينة الكويت على المخطط الرئيسي أنشأ حالة من التفرقة المجتمعية؟ وهل تغير هذا الوضع خلال الـ 15 أو الـ 20 عاماً الماضية؟
ف.ن.: بالطبع، إن التخطيط الحضري أدى إلى خلق حالة من التمييز والتفرقة بطرقٍ عدة. وهو أحد ملامح ما يمكننا تسميته بـ التخطيط المدني الحداثي، وهو أمر معروف عالمياً، ويتضمن التقسيم بطبيعة الحال. بينما كانت الكويت قبل النفط أكثر تقارباً وترابطاً عبر مختلف المناطق في المدينة: يمكنك القيام بأكثر من أمر في أماكن متشابهة وبنفس الوقت. بعد النفط، أصبحت هناك حالة من توزيع الوظائف وتقسيمها. لذا أصبح هناك الأحياء الجديدة التي تم إنشاؤها في الصحراء خارج مركز المدينة. وهناك الأحياء السكنية، وأصبح بذلك السكان منفصلين تماماً عن مناطق العمل. ومن ثم أصبح العمل منفصلاً تماماً عن المتعة. أي، أين ستذهب في وقت فراغك؟ أين ستتبضع؟ وأين هي المدرسة؟ وبالطبع المنطقة الصناعية لها قطاعها الخاص، ومراكز الرعاية الصحية لها قطاعها الخاص. لقد تم تقسيم كل شيء وعزله عن باقي القطاعات. وما يعنيه ذك هو أنه يجب عليك التنقل بسيارة خاصة. وحينها لم يمكن قد تم بناء بنية تحتية قوية للنقل العام، مما أدى إلى خلق مجتمع أكثر عزلة. لم يعد هناك أماكن متعددة الاستخدامات حيث يمكنك التواصل مع أناس مختلفين في أوقات مختلفة من اليوم.
وما هو أقرب لسؤالك، التفرقة المجتمعية. كانت سياسة الكويت واضحة جداً في تفرقة الناس ذوي المرجعيات المختلفة. فمنذ الخمسينيات وحتى الثمانينيات كانت هناك سياسيات منفصلة فيما يخص من يعرفون باسم "الحضر"، حيث تم نقل السكان السابقين للمدينة، وأصبحت منازلهم تابعة للدولة، وفقاً لقانون تضمين الذي يتيح للدولة استملاك الأراضي. بعد أن تم استملاك أراضيهم، نُقِلوا إلى منازل مخصصة لهم في الأحياء القابعة خارج أسوار المدينة القديمة. وثم بدأوا ببرنامج تطويري جديد في بداية الستينيات تقريباً، وعُرف بالتمدن أو تحضر البدو، وكان هذا هو المصطلح المعتمد في الوثائق الأولية للمخططات. وتم عمداً وضع البدو في مناطق خارج منطقة العاصمة الرئيسية، وكانت تعرف ضمن الوثائق الرسمية بـ المناطق الخارجية، بينما كان يسكن الحضر آنذاك في المناطق النموذجية كما تشير إليه الأوراق. لذا فنحن أمام هاتين المنطقتين الخاضعتين للبناء، وكان لدينا بعض القرى، مثل قرى جنوب الكويت "الفنطاس"، وهي قرى زراعية أو قرى صيد صغيرة، وهناك كذلك قرية الجهرة، واحدة من أهم القرى الزراعية. وعندما تم منحهم منازل جديدة في الستينيات والسبعينيات، تم السماح لهم بالبقاء فقط ضمن المناطق التي كانوا يقطنوها من قبل.
وما يعنيه ذلك، هو أنه تم بناء هذه القطاعات المحددة والمنفصلة، حتى بين أهل الكويت. نُقل الحضر إلى أحياء محددة، واستوطن البدو في مناطق خاصة بهم في الضواحي البعيدة عن المدينة، وخلال فترة الثمانينيات (وحتى بعد الغزو) لم يكن من السهل الوصول إلى المدينة بالسيارة عبر طرق العديد من هذه المناطق. وهناك كذلك المناطق القروية السابقة المغلقة على ذاتها. أي، أنه على مدى عقودٍ عدة، تعرض سكان الكويت لهذه التغيرات والتحولات، وهناك القليل جداً من التفاعل بين هذه القطاعات المختلفة من المجتمع.
وفي واحدة من المقالات التي كتبتها عن هذا الموضوع، وبالتحديد فيما يخص موضوع الإسكان، أتحدث عن سبب أحد أكبر الأخطاء الاجتماعية التي تم ارتكابها في الكويت اليوم، وخصوصاً في العقود الحالية، ألا وهو الوضع القائم بين "الحضر" و"البدو". لم يعد هناك بدو في الكويت، لا يوجد لدينا بدو رحالة يتنقلون على الجمال ويرعون الغنم، ولكن بقي اعتماد تصنيفهم ضمن فئات المجتمع على هذا الأساس. ويمكنني أن أجزم أن السبب في ذلك هو الشكل الذي تم فيه تقسيم المجتمع عبر المناطق والمساحات الحضرية، حيث تم إبقاء هذه الجماعات متفرقة، وبالتالي نراهم في خصام دائم بين بعضهم البعض.
وعلاوة على ذلك، بالطبع، هو أن نسبة كبيرة من التعداد السكاني في الكويت يعود لغير الكويتيين. وهؤلاء كذلك تم تعمّد إبقاءهم بعيداً عن الأحياء الكويتية. وتم ذلك، مثلاً، من خلال منع الإيجار في الأحياء الكويتية والأحياء الجديدة. كان هناك حالات قليلة مغايرة، وخصوصاً في المناطق التي بُنيت في السبعينيات وبداية الثمانينيات تقريباً. من يعرف الكويت قد يستطيع التعرف على مناطق معينة مثل الجابرية وسلوى والسالمية، وهي الأحياء الوحيدة التي يمكن أن تجد فيها فللاً وبيوتاً يسكنها الكويتيون وغيرهم، ولكن، على صعيد أكبر، وضعت القيود على استئجار العقار في الأحياء الكويتية بهدف إبقاء غير الكويتيين خارج تلك المناطق.
ومن ثم، هناك المناطق المخصصة للإيجار فقط، وذلك ببساطة، لأنه لا يسمح لغير الكويتيين بامتلاك الأراضي والعقارات في الكويت، لذا، لا يمكنهم سوى الاستئجار. فأصبح لدينا الآن نوعاً آخر من المناطق، المخصصة للإيجار فقط، وهي في الغالب مناطق وسط البلد، مثل السالمية، وأصبحت هي تلك المناطق المعتمدة التي يمكن أن يسكنها الأجانب. لذا فإن التفرقة المكانية الاجتماعية تم بناؤها مع بناء مدينتا وتخطيطها. وما أقوله في بحثي، هو أنه لا عجب إذاً إن وجدت نفسك لا تتفاعل ولا تنسجم إلا مع الأشخاص الذين لديهم نفس خلفيتك المرجعية، ومع الوقت تصبح أقل تسامحاً وأقل قدرة على التواصل مع الآخرين والمختلفين عنك، لأنك اعتدت الوجود حول أشخاصٍ يشبهونك أنت فقط.
ف.ا.: ذكرتِ مناطق السالمية والجابرية، وأشرتِ إليهم بأنهم مناطق يمكن أن يسكن فيها كل من الكويتيين وغير الكويتيين الذين يعيشون ضمن نفس المعايير داخل المدينة. هل ما زلت ترين أن تصنيف المساكن لا يزال مخصصاً أو مرتبطاً بالجنسية حتى في هذه المناطق؟
ف.ن.: نعم، والتصنيف، كما قلتِ، فيما يخص نوع المسكن، لطالما كان، أو لطالما كان تاريخياً، مرتبطاً فعلاً بالجنسية. فالفلل محصورة فقط بالكويتيين أما الشقق والوحدات المؤجرة مخصصة لغير الكويتيين. وبما أننا نتحدث عن ذلك، علينا أن نقول إن هذا الأمر قد بدأ بالتغير في العقود الأخيرة. والطريقة التي أرى فيها قابلية تغير هذا التصنيف تعود بسبب النقص الشديد في توفر الإسكان في الكويت للكويتيين. لذا، فإن معدل الطلب أعلى بكثير مما يمكن أن تقدمه الحكومة للسكان. لهذا نجد في الوقت الراهن أنه بينما ينتظر العديد منازلهم التي تبينها الحكومة، بدأ شباب الكويت في آخر عقدين في استئجار الشقق. لذا أصبح هناك عاملٌ جديد يمكننا بسببه أن نرى المباني التي تبنى والشقق بشكل على مستوى رفيع وأكثر تطوراً، وتستهدف الكويتيين دون غيرهم. لذا، يمكن أن نرى في هذه المباني الأحدث خليطاً من الكويتيين والأجانب. بينما كان يوجد في الماضي عدد من المباني التي لا تقدم عقود الإيجار للكويتيين، وتكون للأجانب حصراً.
لكن، ما تزال هناك تلك النزعة أنه بمحصلة الأمر سوف أحصل على تلك الفيلا في الأحياء السكنية، وهذا هو حقي كمواطن كويتي. ولا أعتقد أن هذا النموذج قابل لأن يكون مستمراً أو مستداماً بعد الآن. وأظن أن هذا كله يؤدي إلى تفاقم المشاكل الحالية من خلال الاستمرار بافتراض أننا سنعيش ضمن أحيائنا الخاصة في هذه المناطق المعزولة، بعيداً عن أماكن عملنا وبعيداً عن مدارسنا وبعيداً عن الأشخاص الذين يمكن أن نتفاعل معهم بشكلٍ يومي. إن هذا الأمر من شأنه فقط الإبقاء على بعض المشاكل الاجتماعية التي سببها نموذج الإسكان المنفصل لدينا.
المبادرة الوحيدة المغايرة التي بناؤها، هي مجمّع الصوابر السكني، وهو مجمع سكني عام تم بناؤوه في ثمانينيات القرن الماضي، في وقت كانت ما تزال تتأصل فيه تلك الفكرة بأن الشقق تعني ساكن غير كويتي. تم بناء مجمّع الصوابر للعوائل الكويتية الشابة متوسطة الطبقة والذين رفضوا السكن بشقق. وبحلول وقت الغزو كان المجمّع ضمن الحد الأدنى من سعة التشغيل (وبقي كذلك لمدة أربع أو خمس سنوات على الأقل) ربما تم تشغيله بنسبة 50 بالمئة فقط؟ وبعد الاحتلال بدأوا بتخصيص المنازل للمطلقات واللواتي كن قادرات على تقديم طلب الحصول على منزل، والفئات الأخرى المشابهة. لقد تم هدم مجمّع الصوابر مؤخراً، ولكن كان هناك حركة قوية بين مجتمع المعماريين والأشخاص الذين أرادوا الحفاظ على المجتمع، ونادوا بإبقائه، أولئك الذين كانوا سيحبون فكرة العيش في هذا النموذج السكني الآن، حيث كانت هناك محاولات في العودة نحو المدينة ووسطها.
لكننا ما زلنا على ما يبدو عالقين في تلك النماذج القديمة لما يعنيه الإسكان العام. الإسكان الذي توفره الدولة يعني ما يعنيه، أن يعيش الكويتي في فيلا في الضواحي. وأعتقد أننا نحتاج إلى إعادة التفكير في تلك الأنماط بشكل حقيقي، كما قلتِ، للتفكير فيما هو أكثر ملاءمة لمجتمعنا وما هو أكثر استدامة على المدى الطويل لمجتمعنا.
ف.ا.: بعيداً عن سياسات الإسكان في الكويت، كيف تتعامل سياسات وبرامج التطوير الحضري للمدينة مع حقيقة أن أكثر من 70 % من قاطنيها في الكويت مؤقتون أو لا يمتلكون حق المواطنة؟
ف.ن.: نعم، سؤال جيد فعلاً، وإضافة إلى ما ذكرتيه، إن التفرقة بالإسكان واضحة جداً، بإمكاننا أن نرى أن هناك مناطق معينة من مدينتنا تعتبر مؤقتة وقابلة للزوال (وليس فقط منطقة وسط المدينة "الدوان تاون" بل محيطها كذلك) وهي ليست مبنية لتبقى. وإذا نظرنا إلى المباني التي يسكنها أصحاب الطبقة الوسطى والطبقة العاملة من غير الكويتيين والعمال المهاجرين وما إلى ذلك، نجد أن الكثير من هذه المباني السكنية لا يتم صيانتها بشكل دوري.. وكأنها مبانٍ بنيت في الكويت لتزول لاحقاً: بمجرد الانتهاء من بنائها، يتوقع أن يتم هدمها خلال 15 أو 20 عاماً. لذا، ليس هناك جدوى من ترميمها وصيانتها والحفاظ عليها.
هناك العديد من المغتربين يعيشون في الكويت ويفكرون بالبقاء فيها... بعضهم يعيش هناك منذ أجيال. وبعضهم يرغب بالقدوم والبقاء، ولكن التركيز على حالة عدم البقاء المتزايدة تجاه "العمال المؤقت" – أي أنك لن تقيم هنا بشكل دائم، تنعكس على البيئة العمرانية. والتي ترسل بدورها رسالة واضحة فحواها أنه لن يكون لك بيت هنا. وفكرة أنه ليس من المسموح للأجانب شراء الأملاك أو الأراضي أو أن يكونوا يمتلكوا الحق الكامل على أعمالهم الخاصة، حيث يجب أن يكون لديك شريك كويتي بنسبة 50 % من المشروع، جميع هذه الأمور تؤكد على فكرة الزوال وعدم الثبات.
وإن أردنا أن نرى تأثير الأجانب على البيئة العمرانية، علينا أن ننظر إلى مبانينا التي شيدها ليس فقط العمال المهاجرون الذين بنوا مدينتنا بل وكذلك المعماريون والمخططون الذي قدموا منذ الخمسينيات وعملوا في الكويت. نعم شارك بعض الكويتيين في البناء، وبشكل متزايد، أصبح الكويتيون معماريين ومخططي مدن، إلا أنه في العقود الأولى لظهور النفط، حين كانت هذه مهنة جديدة، تم بناء العديد من المناطق على أيدي العرب والهنود والباكستانيين، أشخاصٌ عاشوا في الكويت وعملوا فيها. ولهذا، حين نؤكد على التفرقة بين مفهومي نحن وهم فيما يخص بيئتنا العمرانية فإننا نحجب هذا التاريخ متعدد الثقافات الذي أسهم في إنتاج شكل بلدنا الحالي.
وهي بالفعل مشكلة، لأنها تعيد خلق مفهوم البناء المؤقت في تلك المناطق. مفهوم الافتراض المسبق بعدم البقاء: أي أن هؤلاء يأتون ويغادرون ويأتي آخرون جدد غيرهم وأنهم بدورهم سيرحلون. وهذا بالضرورة ليس هو واقع الحال، إن أعداد المغتربين لا تتغير بغض النظر عما ينون القيام به، وبغض النظر عما يحاول القانون فعله بشأن تقليل عددهم في الكويت. وتزداد المشكلة من خلال عدم الاعتراف بهذا الوضع وقبوله، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الاكتظاظ في المناطق التي يعيش فيها المغتربون.
ف.ا.: تطرقت إلى مشروع القانون الأخير الذي قدمته الحكومة الكويتية، والذي يهدف إلى تقليص عدد الأجانب إلى 30٪ من 70٪ إلى 30٪ من إجمالي سكانها. كيف ترين أن هذا سيؤثر على التنمية الحضرية في الكويت؟
ف.ن.: قبل أن نتطرق إلى موضوع تأثير ذلك على التنمية الحضرية في الكويت، علينا أن نفكر بموضوع الافتقار لخطة فعلية وما يعنيه هكذا قانون فعلاً. إنه أمر سهل أن نقول بأننا سنقلل عدد الأجانب لنسبة 30 % في السنوات المقبلة. لكن هذه النسبة 30 % هي رقم كبير للغاية، بداية أظن أنها تقريباً مليون نسمة، نحن نتحدث عن مليون شخص، إذا لم يكن أكثر. وهؤلاء المغتربون يعملون ضمن وظائف في هذه البلد، فحين تقول إنك ستقلل عددهم أو أنك ستزيل فلنقل مليون شخص ٍمنهم، من سيقوم بهذه الوظائف إذاً؟ يعمل هؤلاء الخبراء في
الغالب في القطاع الخاص أو بقطاع الخدمات أو وظائف العمل اليدوي. هل سيفعل الكويتيون ذلك؟
كما أن هكذا أمر قد حصل مسبقاً، لطالما كانت هناك موجات تنادي بتقليل أعداد الأجانب، وهذا امتداد للموجة الأولى فيما يخص تقليل العدد، ولكن ما يحدث حقاً هو أن هؤلاء يتم استبدالهم بآخرين جدد، لأن الكويتيين لم يعملوا بالوظائف التي كان يشغلها الأجانب. سأعطيك مثالاً على ذلك، مثلاً في عام 2018، أظهرت دراسة أن هناك ما يقارب 5.700 خريج كويتي، فلنقل 6000 يدخلون إلى قطاع العمل. وتم تخصيص الوظائف لهم من قبل الرابطة العامة للقوى العاملة، إلا أن 80% من هؤلاء الخريجين الذي عرض عليهم وظائف في القطاع الخاص رفضوا العمل بتلك الوظائف. على الرغم من وجود مبادرة دايم الأمل، وهي تعويض حكومي، حيث يتم معادلة راتبك من ميزانية الحكومة إن كنت كويتياً تعمل في القطاع الخاص. وهذا لم يكن كافياً لتحفيز شريحة كبيرة من السكان الكويتيين للذهاب للعمل في القطاع الخاص. ومرة أخرى أقول إن تقليل عدد الأجانب إلى 30 %، يعني في الغالب نسبة كبيرة من وظائف القطاع الخاص، أو وظائف العمل اليدوي، من سيملأ حينها هذا الفراغ؟ نحن بحاجة إذاً إلى نقلة في طريقة التفكير، وإعادة معالجة ما يشار إليه غالباً بالاختلال الديموغرافي السكاني، ولكن ليس لأسباب تتعلق برهاب الأجانب. علينا أن نتوقف عن التفكير في هذا البلد باعتباره بلدنا وليس بلدهم. لقد تم بناء الكويت بشكلٍ تعاونيّ مشترك، من قبل ظهور النفط وحتى هذه اللحظة، نحن مجتمع من المهاجرين. لم يكن هناك شيء اسمه كويتي أصلي قبل القرن الثامن عشر. إن جميع سكان الكويت منذ القرن الثامن عشر وحتى القرن العشرين قد أتوا من مكان آخر غير منطقة الكويت. كل من انتقل إلى الكويت واستقر فيها أتى للعمل في صيد اللؤلؤ، تجارة ما قبل النفط، وساهموا جميعاً في بناء المجتمع الذي نحن عليه اليوم. وهذا الأمر لا يجب أن يتغير فقط لأن قانون الجنسية الآن يقول بأنه لا يحق لك أن تكون جزءاً دائماً من هذا المجتمع. والواقع هو أن البلد والاقتصاد والأرض وكل شيء آخر يستمر بالتطور وينشأ من خلال التعاون والشراكة بين جميع الأشخاص الذين يعيشون في الكويت من أعلى قمة مقياس التدرج الاقتصادي الاجتماعي وحتى أسفله. وبينما ما تزال هناك عوامل اقتصادية أو تساؤلات عن الاستدامة أجبرتنا في إعادة التفكير في هذه الحقائق السكانية، فإن جزءاً من تصحيح الاختلال السكاني، كما يشار إليه غالباً، هو تخفيف قيودنا على قوانين الجنسية.
ف.ا.: لننتقل الآن إلى محورٍ آخر، لأني أرى بأن هذا الموضوع يتطلب جلسة خاصة. نود الآن أن نتحدث عن أمر مهيمن على عملك، حيث تحددين الهيئات المكانية والتنظيمية التي تشكل المجال العام في الكويت، في الماضي والحاضر. هل لك أن تحدثينا أكثر عن الهيئات المختلفة التي تنظم عمليات التواصل العام، وما هو موقف الحكومة من ذلك؟
ف.ن.: عندما نفكر في المجال العام في الكويت، نجد أن مساحة النقاش العام والحوار حول المسائل ذات الاهتمام الجماعي، تاريخياً، أولاً وقبل كل شيء، كانت الديوانية. ولكن بطبيعة الحال، لطالما كان هذا الوضع يميز بين الجنسين، فهو في الغالب مساحة ذكورية، على الرغم من أن هذا قد تغير مؤخراً. ومن ناحية أخرى، كان هناك وسائل الإعلام، الموجودة منذ الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين: حتى الصحف، هي أماكن للخطاب العام. أحد الأماكن التي أعتقد أنها مهمة للغاية في الكويت، كان عالم منظمات المجتمع المدني وتلك الأماكن التي كانت موجودة منذ الخمسينيات فصاعداً. وهكذا، كان لدينا الكثير من تلك الأندية والمنظمات التي كانت نشطة للغاية في مجال الخطاب العام، في أماكن خارج القاعات الرسمية للبرلمان، مثلاً، حيث تذهب لمناقشة هذه القضايا الوطنية. لكن هذا المجتمع المدني وهذه النوادي والمنظمات التي أسسها الطلاب إلى حد كبير، الطلاب المبتعثون الذين عادوا من الخارج، أصبحت في الواقع هي الأداة الرئيسية أو مكان الخطاب العام في الكويت. الآن ما رأيته في السنوات الأخيرة، منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى منتصفه، أن هناك ازدياد في أعداد هذه المنظمات والمجتمعات الجديدة ولأسبابٍ عدة، وهي موجهة إلى حد كبير للشباب أو يقودها الشباب، وهم مبدعون للغاية ويحاولون خلق أنواع جديدة من المساحات، وتقدم هذه المنظمات المساحات المادية وكذلك تنشئ هذه العوالم القائمة على النقاش العام والتفاعل. بعض الأمثلة على الأماكن التي كتبت عنها في عملي تم إنشاؤها خصيصاً لهذه الأغراض، هي مبادرة "عربانة" وهي منظمة تم إنشاؤها على يد المعماريين والمصممين الشباب الذين أرادوا إنشاء مساحة عمل مشتركة جماعية. وكان من المفترض أن تكون شكلياً مثل العربة "عربانة"، لتشجع على مشاركة الجميع في التخطيط الحضري وعمليات التنمية. لم تنجح الكثير من هذه الأماكن مثل عربانة وغيرها في الواقع لأنها تستمر في مواجهة العوائق الحكومية، وعدم الكفاءة البيروقراطية، مما جعلها تكافح لخلق مثل هذه المساحات من التفاعل والتواصل. ولذا، أعتقد أن هذا جزء من المشكلة، مشكلة خلق مجال عام نابض بالحياة في مجتمع يتم استهلاكه بشكل متزايد ضمن حياته الخاصة في المنزل، أو في العائلة، وما إلى ذلك. ولكن عندما يكون هناك أكثر من مجرد رغبة لخلق مثل هذه المساحات العامة التي تعنى بالتواصل والتفاعل، فإنه ستتم مواجهة هذا النوع القديم جداً من القوانين الغامضة، والقيود البيروقراطية، مثل قانون الترخيص وقانون تقسيم المناطق، وأي أمر متواضع كهذا. وأحد المشاكل التي اعترضت طريق عربانة، هي أن مقرهم كان عبارة عن مستودعٍ صناعي. ولكن ليتم تشغيله بالطريقة الصحيحة، كان يجب ترخيص هذا المكان بطريقة معينة، ذلك لأن الناس كانوا يستخدمونه على أنه مساحة مكتبية. ولكن في نهاية المطاف لم يتسنى لهم الحصول على الترخيص، واضطروا لإغلاق المكان. ولكن بعدها ظهر عمل عربانة الذي كان قد بدأوا فيه، وهو عبارة عن جلسات نقاش حول التخطيط الحضري، وتم عقد ورش العمل والندوات وجلسات الحوار. وبهذا، لأن الشباب يحاولون القيام بأمور جديدة وبطرق جديدة، فإنهم يواجهون نظاماً قديماً لا يعرف كيفية استيعاب وتسهيل العملية لتزدهر الأفكار الجديدة. ومرة أخرى، يعود الأمر إلى كل ما كنت أقوله، التغيير يحتاج إلى تحول في النموذج المتبع. نحن بحاجة إلى أن ندرك أن الناس يريدون أن يكون لهم نصيب في بيئتهم المبنية وليس فقط أن تخطط الحكومة لهم وتعتني بكل شيء. نظراً لأن التخطيط والتنمية في الخمسينيات كان دائماً يعتبر من اختصاص الدولة الأبوية، أي نحن سنقوم بتخطيط شكل المدينة ونبني ونقدم لكم ذلك جاهزاً كمواطنين، سواء كان ذلك من خلال البنية التحتية السكنية، وما إلى ذلك. لكن ما يعنيه ذلك هو أن أنه لم تكن هناك أبداً آلية للمشاركة العامة والمناقشة. ولا يستلزم مجالنا العام هذه الأنواع من المساحات المدروسة حيث يُمنح الناس الفرصة للتعبير عما يريدونه من المدينة.
ف.ا.: هل يمكن لك أن تحدثينا أكثر عن طبيعة ما أمسيتهِ بالأماكن العامة مسبقة التخطيط أو التي تديرها الدولة؟ وهل يمكنك أن تخبرينا من هم الأشخاص الذين يستطيعون استخدام هذه الأماكن والوصول إليها؟ وإذا كانت هناك أي سيناريوهات أو أمثلة نجح فيها التكامل الاقتصادي الاجتماعي.
ف.ن.: هذا سؤال مهم ومن الجيد أنك طرحتيه الآن، لأني أعتقد أن هذا أحد الأمور التي تتغير الآن في الكويت. فمنذ ظهور النفط في الخمسينيات، كانت الدولة هي المسؤول الأول عن بناء شكل المدينة. ولهذا، فإن أي شيء لم يكن ذو ملكية خاصة كان تحت إشراف التخطيط الحكومي، والذي لم يمكن عادة يتضمن المساحات العامة حتى فترة الثمانينيات. وأول مبادرة حقيقة في الثمانينيات لخلق مساحات عامة كان، على سبيل المثال، التخطيط للواجهة البحرية، أي منطقة الكورنيش، تقريباً بدأت من أبراج الكويت نزولاً عند منطقة السالمية، كانت تلك هي المرحلة الأولى، ومن ثم استمر البناء ليمتد من أبراج الكويت وحتى منطقة الشويخ. كان هذا التخطيط والبناء الخاص بفترة الثمانينيات تحت إشراف الدولة، بقيادة المعماري الكويتي غازي سلطان، وهو معماري معروف جيداً في الكويت، توفي قبل بضع سنوات، ولكنه كان المعماري الرائد في ذاك الوقت وهو الذي طوّر المخطط الرئيسي لمشروع الواجهة البحرية في الثمانينيات. الآن، وللأسف، ما حدث ما بعد الغزو، هو أن هذه المنطقة تم تسليمها للقطاع الخاص، أي، ما كان يفترض أن يكون عاماً أصبح سلسلة مطاعم مملوكة للقطاع الخاص. وبهذا تم تسليع الكثير من المناطق العامة التي طورتها المدينة، وخاصة تلك التي تقع على الواجهة البحرية، والتي هي بنظري من أهم المناطق العامة. الآن، السبب الذي جعلني أقول إن الأمر بدأ يتغير في السنوات الأخيرة هو أنه أصبح لدينا نوع من الديناميكية الجديدة التي ظهرت خلال العقد الماضي، أو بالتأكيد على مدى السنوات الأربع الماضية أو نحو ذلك، ولكن على الأقل تم التخطيط لهذا منذ عام 2012 فصاعداً، حيث بدأ الديوان الأميري، وهو مكتب الحاكم، في القيام بدور أكثر استباقية لخلق مساحات ثقافية بشكل خاص. ولكن عودة إلى سؤالك، ولنتحدث عمن يستخدم هذه المساحات، نحن الآن أمام هذه الأماكن التي يتم إنشاؤها بواسطة الديوان الأميري. إذاً، استعادة دور الدولة في بناء هذا النوع من الأماكن، بدلاً من وجود مساحات تجارية ومراكز تسوق ومطاعم أو ما إلى ذلك من مشاريع ينفذها القطاع الخاص. لكن فعلياً هي أماكن معزولة للغاية، مساحات نخبوية. الكويتيون هم معظم من يحضر تلك العروض. إذاً نعود مرة أخرى لنتساءل عن الطبيعة العامة لهذه المساحات وإلى أي مدى هي عامة؟ عندما تكون الفعاليات التي تقام هناك موجهة للنخبة فقط. لذا، فنحن ما نزال نعاني من أجل خلق مساحاتٍ أكثر تكافؤاً وتكاملاً. ومجدداً أقول إن هذا يجب أن يتغير من خلال تغيير عقلية النظام الأبوي الذي يقتضي توفير كل هذه الأشياء للناس، بدلاً من السماح لهم في تقرير ما يريدون أن تبدو عليه مدينتهم.
(الهوية البصرية بإذن: ترينالي الشارقة للعمارة، الصورة بإذن: فرح النقيب، تقنية التسجيل الصوتي: Blue Dot Sessions)